ككل أربعاء، عقدت الأمانة العامة لقوى «14 آذار» اجتماعها الأسبوعي برئاسة فارس سعيد، وتداولت في مختلف القضايا المثارة من حولها، وما أكثرها، لكنّ أعضاءها خرجوا كما دخلوا، مكتومي الصوت.
هذه ليست المرة الأولى التي تنأى «أمانة فارس» بنفسها عن الضجيج الإعلامي، فتختبئ خلف خيال إصبعها كي لا تظهر حجم الاختلافات التي تعصف بمكوناتها، وتلوذ بالصمت. منذ مدّة غير قصيرة، تعجز الأمانة العامة عن صياغة بيان يعبّر عن وجهة نظر جامعة لأجنحتها المتكسرّة، بعدما صارت بيتاً بمنازل متباعدة جداً…
باختصار، وفي عامها العاشر، صارت «14 آذار»، 14 رأياً وأكثر… يقول ناسها «ما يجمعنا لا تزال العناوين الكبيرة، وأهمها: العبور الى الدولة، وهذا ما يطال بالدرجة الأولى السلاح غير الشرعي، والعمل على اجراء انتخابات رئاسية تأتي بماروني يبدأ من حيث انتهى ميشال سليمان، ووضع قانون انتخابي عادل»… ويقرّون «ولكن حين ندخل نفق التفاصيل، نغرق في مستنقع التباينات».
عملياً، ليست التفاصيل وحدها هي من أفقد قوى «14 آذار» هالتها وأكل من زخم حضورها الشعبي، وإنما ثمة عوامل أخرى دفعت بها الى التراجع، لتصير أشبه بهيكل عظمي لا يزال واقفاً على رجليه، تسيّره رؤوس كثيرة، فتمنع عنه المشي.
بالنسبة للملف الرئاسي، فإنّ توافق الآذاريين على العنوان الكبير لم ينقذهم من فخّ الاختلاف. تقدّم سمير جعجع بمبادرة ترشّحه لكرسي الرئاسة من دون تنسيق مع أي من حلفائه، لكن «المستقبليين» استفادوا من هذه الفرصة ليقفوا خلف متراسها، طالما أنّ الضوء الأخضر الإقليمي لم يُمنح بعد لتسمية خلف للرئيس ميشال سليمان. فأيدوا، ولم يؤيدوا رئيس «القوات».
عندها كانت الشهية الكتائبية على تقديم ترشيح الرئيس أمين الجميل الى الأمام بعدما استنفد جعجع فرصته، وفق بعض الكتائبيين، من دون أن يعني ذلك أن ترشيح الجميل منزل وغير قابل للنقاش، بدليل أنّ سامي الجميل عرض على طاولة الحوار سلّة أسماء ممكن لها أن تكون جسر عبور بين اصطفافيّ النزاع، منها كارلوس غصن على سبيل المثال، ما أثار استغراب المشاركين.. فضاعت «الطاسة» بين الموارنة.
في المقابل، يبقي «المستقبل» على ورقته الرئاسية «مستورة»، لسبب بسيط هو أنّ لكل من هؤلاء حساباته التي تملي عليه تأييد من يراه مناسباً للرئاسة. سعد الحريري يفضّل حياكة تسوية تعيده الى بيروت ومن بعدها الى رئاسة الحكومة، وقد ظنّ في لحظة من الزمن أنّ الاتفاق مع ميشال عون يعبد له طريق السرايا. أما فؤاد السنيورة فيحسبها بطريقة أخرى. فاختلط الحابل بالنابل.
هكذا، صارت الرئاسة مصدراً لوجع الرأس داخل هذا الفريق، وحصل الاتفاق على أن الاختلاف قائم، ولتترك المسألة لمواقيتها الاقليمية. أما قانون الانتخابات فمصدر «صَرَع»!
صار بديهياً أنّ الحزبَين المسيحيين داخل «14 آذار» يجهدان لتعديل قانون الانتخابات بأي طريقة ممكن ان تسمح لهما بتحسين حصتيّهما النيابية ورفع أثقال «المستقبل» عن كتفيهما. بينما لن يجد الفريق «الأزرق» أكثر من «قانون الستين» خدمة لمصالحه الانتخابية، وبالتالي ليس مضطرا لبذل أي مجهود في سبيل نسف القانون القائم، وأنما قد يضع كل ثقله كي لا يغيّر الوقائع. وليتكفل حليفاه في تقليع الشوك بأيديهما.
ومع ذلك، يعجز «القواتيون» و «الكتائبيون» عن تقليص المسافات المتباعدة بينهم حول هذه المسألة، ليجدا رقعة مشتركة قد تتحول الى صيغة قانونية تضع «الفريق الازرق» أمام الأمر الواقع لتحرجه قبولاً. فيبقى التوافق حول الشعار الكبير: الدعوة لوضع قانون انتخابي عادل.
حتى الموقف من الحوار الوطني الذي قاطعته معراب وأيده كل من بيت الوسط وبكفيا، صار ملفاً خلافياً. والتحقت «الكتائب» بركب «القوات» بعدما أدارت ظهرها للطاولة المستديرة تحت عنوان المطالبة بحلّ ملف النفايات. أما القطبة المخفية فتكمن في الخشية من تحول مائدة الرئيس نبيه بري الى بديل عن الحكومة. وبكلام أوضح، ثمة خوف من تكرار تجربة اللقاء الجانبي الذي أشرف عليه بري وكاد يؤدي الى اتفاق حول الترقيات العسكرية واستبعد يومها «الكتائب» عنه.
هنا، يفترض أن يُسأل الرئيس السنيورة عن تجاهله لموقف حليفه الكتائبي واستبعاده عن حلقة التشاور، غير أنّ سامي الجميل فضّل تعليق اعتكافه على شمّاعة «الزبالة».
كذلك الأمر بالنسبة للحكومة التي لم يكترث «المستقبل» كثيراً لرفض حليفه القواتي مجاراته في هذا التنازل، ولا للعبارات الكبيرة التي راكمها طوال أشهر حول رفضه الجلوس وجهاً لوجه مع «حزب الله» اذا لم يخرج الأخير من مدينة القصير السورية، فإذ به يجالسه في الحكومة وفي طاولة الحوار الثنائي، بينما مقاتلو «حزب الله» صاروا في حلب…
حتى العلاقة مع ميشال عون تحوّلت من قضية جامعة يتلاقى حولها كل خصوم الجنرال، الى ملف مثقل بالتباينات. يقول أحد الآذاريين إنّه منذ ولادة «اعلان النيات» بين «التيار الوطني الحر» و «القوات» تعجز قوى «14 آذار» عن صياغة بيان تتناول فيه رئيس «تكتل التغيير والاصلاح» بسبب تصدي القواتيين لهذا الأمر.
يضيف هؤلاء أنّ هذه الورقة تكبّل معراب وتدفعها الى بلع موسى انتقاداتها للرابية، وتزيد من حدّة التباينات داخل الصف الآذاري. في المقابل هناك من يرى أنّ هذه الورقة أراحت جعجع من مهمة التصدي لميشال عون عند كل مفصل نيابة عن حلفائه، وعلى هؤلاء القيام حالياً بهذا الدور اذا ما أرادوا ذلك.
بالنتيجة، إنّ أبرز ما تعاني منه هذه المجموعة هو غياب الدينامو المحرك أو القائد الفعلي القادر على استقطاب الحلفاء، مع أنّ مكوناتها يشددون دوماً على أنها ليست حزباً من لون واحد، ولا هي أطراف متجانسة الى حد التماهي، ولدى كل منها الخصوصية التي تتيح هذه التعددية. غير أنّ «غربة» سعد الحريري عن لبنان، والذي يفترض به أن يلعب هذا الدور كإطار جامع للأجنحة الآذارية، تحّول هذا الفريق الى ضباط من دون جنود، أو بالأحرى الى «شركاء مضاربين»، ذلك لأنّ حروب المزايدات لاستقطاب المؤدين وجذب المناصرين تجعل من حسابات هذا الفريق معقدة ومتعددة، فتدفع كل طرف الى طريق مختلف عن الآخر، حتى لو التقوا حول العناوين العريضة لأنهم سيختلفون عند التفاصيل. وقد تكون الخصومة لـ «حزب الله» هي العنوان الجامع لهذه الأحزاب، وعصب خطاباتها. أما غير ذلك، فهو مشروع اشتباك بين «ذوي القربى».
حتى اليوم، لا تزال قوى «14 آذار»، كاصطفاف سياسي، حيّة ترزق. تواظب على عقد اجتماعاتها الموّسعة في بيت الوسط برئاسة السنيورة ومشاركة سامي الجميل عن «الكتائب» والنائب جورج عدوان عن «القوات» وغيرهما من النواب والشخصيات الآذارية. ثمة اجتماعات دورية وثمة لقاءات أخرى تسبق مثلاً جلسات الحوار، ليكون التمايز بين هذه القوى معروفاً سلفاً.