كانت دروب الصعود إلى 14 آذار 2005 محفوفة بالشقاء والنضال ضد اليأس كل يوم، كل يوم مدى سنوات طوال. في ذكراه العاشرة يُفترض أن يُدَرّس في التاريخ لا أن يتكرّس طيّه في صفحات التاريخ كبقية ذكريات، كأنها لم تكن.
على أبواب ذكراها العاشرة تقف الحركة المنبثقة من إرادة الناس بالحرية والحياة، مثقلة بالمطلوب منها، وأيضاً بخيبات متلاحقة مُني بها جمهورها الواسع. خيبات قد لا تكون مسؤولة عن بعضها، لكنها غطت على أحلام غالبية من شعب لبنان عبرت عن رفضها لاستمرار الأمر الواقع آنذاك بالحناجر ورفع الأعلام، بالوقفة الواحدة في ساحات ذلك اليوم النادر من تاريخ هذه البلاد المشحون بالصراعات الطائفية والمذهبية. أحلام طليعتها أن يكونوا مواطنين آمنين محترمين في دولة حرة ذات سيادة. دولة كسائر دول العالم.
انتصر اللبنانيون بتحقيق جزء أساسي من مطالبهم بخروج الجيش السوري وإنشاء المحكمة الدولية لمحاكمة قتلة الرئيس رفيق الحريري ورفاقه. وانتصرت قوى 14 آذار في انتخابات 2005 النيابية وانتخابات 2009 وعدد كبير من الانتخابات النقابية، لكن الانقلاب المضاد الذي نفذه محور قوى 8 آذار الإقليمي والمحلي أجهض الأحلام الكبيرة وبدّدها، شهراً بعد شهر وسنة بعد سنة. اغتيال خيرة القادة كان له فعله المؤثر، بل “كاسر الظهر” في بعض المواقع. ساعدت بالطبع في تقدم هيمنة محور “حزب الله” على سياسة الدولة اللبنانية وإحباط لبنانيي 14 آذار أخطاء في إدارة الإنتصار الذي حققه الفريق المنادي بالحرية والسيادة والإستقلال، بدءاً بالتحالف الانتخابي الرباعي في 2005 على حساب فئة واسعة من المناضلين اللبنانيين الشيعة غير القابلين بعقيدة الحزب المسلح وارتباطاته بإيران. كما على حساب فئة واسعة من المسيحيين انقض عليهم الجنرال ميشال عون انتخابياً وإعلامياً ليلتحق بـ”حزب الله” ناقلاً معه جمهوره من ميل إلى ميل. ثم توالت الانسحابات والانكفاءات الكبيرة والصغيرة، وكل لأسبابه. أهمها انسحاب النائب وليد جنبلاط ومعه الحزب التقدمي الاشتراكي.
لا يكاد يحصى عدد الحركات والهيئات والشخصيات السياسية والنضالية المنكفئة عن 14 آذار. كان ينقص أن تغيب عن الصورة القامة المهيبة للبطريرك الكبير نصرالله صفير صاحب النداء الشهير في 20 أيلول 2000 لتزداد الصورة قتامة.
تساقطت على الطريق أوهام كثيرة. لعلّ أولها وأشدها خطورة وهم إمكان “لبننة حزب الله” في 2005 وبعده. مع انهيار نظام الأسد وانشغاله عن لبنان إلى حد بعيد بحروب الداخل السوري، حلت إيران وحزبها محلّه في السيطرة والتحكم في قرار الدولة ومفاصلها الرئيسية. تملك إيران اليوم حق “الفيتو” على إدارة القرار لكن القرارات الرئيسية مثل انتخاب رئيس للجمهورية أو السماح بتشكيل حكومة لبنانية أو إعلان الحرب والسلم فأمور تعود إليها.
رافقت إحباطات 14 آذار انقطاعات عن ناسها، لا تذكرهم القيادات وتحاكيهم إلا قبل انتخابات نيابية أو في مناسبات محددة. لا تفاعل، لا مشاركة، لا أخذ ورد. وبمضي الوقت صارت المسائل الرئيسية محصوراً بتها في دوائر ضيقة، وحتى هذه لا تنسق دوماً وتتفاهم في ما بينها على سبل مواجهة التحديات والمحطات السياسية.
لهذا كله وغيره من الأسباب، صار ملحاً أكثر من أي وقت في الذكرى العاشرة حفظ الروح، أو الفكرة. روح تراكمت تجسداتها من مطالع التسعينيات، حين تجسدت بمقاطعة المسيحيين لانتخابات 1992 وجاراهم المسلمون، وفي آلاف وآلاف بعد ذلك من المواقف والمقالات والمحطات النضالية لمثقفين وطلاب وسياسيين مهّدوا الطريق صعوداً إلى 14 آذار 2005. وكان هناك دم الرئيس الشهيد رفيق الحريري ورفاقه لا يزال حاراً. وكان أيضاً تحدي يوم 8 آذار الاستعلائي والاستكباري لـ”حزب الله” الذي استوجب رداً من اللبنانيين أكبر منه بكثير.
في سبيل حفظ الروح وترسيم الطريق من جديد سيطل الرئيس سعد الحريري من “البيال”، عبر شاشة عملاقة كما في السابق، في الذكرى العاشرة لـ”جريمة العصر”، على الماضي كما على المستقبل، و”المستقبل” والحلفاء برؤية للأيام الآتية وعهد متجدد على الوفاء.
وحتى حلول الذكرى العاشرة في 14 آذار تنشط ورش عمل تشارك فيها القوى والشخصيات المنخرطة في التحالف تحت عنوان “توحيد القراءة السياسية” لأوضاع لبنان والمنطقة والعالم. ويُفترض من خلال المناقشات الدائرة تحديد الخطوات المقبلة. والمتوقع أن يخلص المشاركون إلى عقد مؤتمر موسع في “البريستول”، تُعلن خلاله وثيقة سياسية ترسم خريطة طريق للمرحلة المقبلة.
ولا رابط عملانياً بين هذين الحدثين المرتقبين، وبين توجه “المؤتمر الدائم لسلام لبنان” إلى إعلان نفسه ووثيقته السياسية في مؤتمر عام تحضره مئات الشخصيات في الأسبوع الأول من آذار المقبل، وكذلك توجه “لقاء سيدة الجبل” إلى عقد اجتماع موسع تحت عنوان” دور المسيحيين”. لكن النشاطين الأخيرين قد يكونان محفّزين لقوى 14 آذار، لعلها تصحو وتخرج من حالة استرخاء متمادية.