IMLebanon

14 آذار وتقسيم المقسّم

 

الذكرى الـ17 لانتفاضة 14 آذار تمرّ كأنها صفحة من التاريخ قد طويت ويجرى محو آثارها ونتائجها كل يوم ينقضي، أكثر من الذي سبقه.

 

قد يكون التشاؤم الذي يلفّ استعادة الذكرى مبالغاً فيه بالنسبة إلى البعض، لكنّ الوقائع مثلما هي راهناً، تنحاز إلى هذا الاستنتاج. الظروف التي يحتضنها المشهد السياسي المحلي والإقليمي اليوم تشير إلى ذلك، وهي قد تتغيّر لاحقاً، لكن هذا يبقى في علم الغيب ومتروكاً للغد بالمعنى الافتراضي، قياساً إلى الواقع المحسوس.

 

وإذا كانت القاعدة هي أن الأحداث التاريخية لا تتكرّر مقابل الحكمة التي تقول إن التاريخ إذا تكرّر يكون مهزلة في المرة الثانية، فإنّ ما آلت إليه ذكرى تلك الانتفاضة يقع في منزلة بين الحكمتين. فالتحوّلات التاريخية تكون عادة محطّة على طريق تسلسل الأحداث، التي تؤمّن استمراريّة الوجهة التي رسمتها البداية، في شكل يُنجب الحدث الأول، ما يليه، وفي السياق نفسه، من دون أن تعود عقارب الساعة إلى الوراء.

 

وإذا كانت 14 آذار 2005 أسّست لمسار استقلالي وسيادي في لبنان، فإن العودة إلى الوراء هي التي تحكم ما يشهده البلد، الذي بات مرتهناً ومرتعاً لصراع دولي إقليمي على أرضه أكثر من أي وقت مضى، لم يبلغ ذروته بعد. وقد يكون على اللبنانيين أن ينتظروا مزيداً من تداعيات تصاعده السلبية في قابل الأيام.

 

لا حاجة للتذكير بأن الظروف الدولية والإقليمية التي أحاطت بلحظة 14 آذار شهدت نوعاً من وحدة الموقف الدولي العربي حول لبنان من خلال الإصرار على انسحاب القوات السورية، وقيام المحكمة الدولية لمحاكمة المتهمين باغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، وتأمين الرعاية الخارجية لنهوض مؤسسات الدولة مع قدر من الاستقلالية.

 

وهج 14 آذار بما هو مشروع لمعادلة سياسية تنهض بمؤسسات الدولة، لم يدم سوى سنتين أو ثلاثٍ، بعد أن فرض المشروع الإيراني حرب تموز التي قصمت ظهر الاقتصاد، ثم استطاع كسر التوازن الداخلي عبر غزوة 7 أيار 2008 التي نقلت البلد مجدداً إلى فلك المحور الإيراني السوري، بعد سلسلة من الاغتيالات بهدف شلّ حركة الفريق الاستقلالي ومنعه من مواصلة مسار تثبيت معادلة جديدة قابلة للحياة. النجاح الأبرز للمشروع المضاد للمنحى الاستقلالي كان في استعادة الانقسام الأهلي بالقوة والقهر تارة، وبالقدرة على تعطيل الدور المركزي للدولة ومؤسساتها تارة أخرى، وبانتقال فريق مسيحي وازن تولّى، مقابل مكاسب في السلطة والمنافع تغطية الانقلاب على هوية البلد، فيما أخذ ما تبقّى من قوى 14 آذار ينتظر على قارعة تغيير المشهد الإقليمي الذي عاكس مشروعها، فخضع تارة للتنازلات المطلوبة منه، وأخرى للتناقضات التي امتدّت إلى عمق حلبته الداخلية. وهو مرشح اليوم بعد حرب أوكرانيا، لأن يكون مسرح الجنوح الأميركي نحو العودة إلى الإمساك بالمنطقة ولبنان، في مواجهة ما حقّقته روسيا وإيران من مكاسب فيهما، في سياق الصراع الدولي، مع ما يعنيه ذلك من اضطراب وعدم استقرار.

 

الثابت في مسار التحوّلات التي أعقبت 14 آذار كان تعميق معايير النظام الطائفي المعاكس لروح الحدث التاريخي الذي تجاوز بأشواط الانقسامات على أساس طائفي. لكن ذلك سرعان ما تبدّد ليعود منطق المحاصصة والتنافس على «استعادة الحقوق» يتحكّمان بالجميع. بل إن الوجه الجديد لهذا النظام ابتدع معايير جديدة مثل «الميثاقية» و»الثلث المعطل» و»التوافقية»… التي كانت وسيلة لتكبيل آلية اتخاذ القرارات في المؤسسات الدستورية، ما سهّل اقتسام المغانم والنهش من خزينة الدولة كيفما كان، وسمح بتغطية أبشع أنواع الجشع والفساد ونهب الدولة باسم الخيارات الكبرى.

 

قلة تنتبه إلى ذكرى 14 آذار التي انقضت، ليس فقط لأن الأحداث تجاوزتها، بل لأن رموزها ينشغلون حتى عن الاحتفاء الفولكلوري بها. فهؤلاء استعاضوا عن وحدتهم بأوضح صور الانقسام الحاد كما هو حاصل في التحالفات الانتخابية. وبدلاً من شرعيّة تنافسهم، تغلب ضغائن الحقد والفئوية بين بعضهم. والانقسام تسلل إلى داخل بعض أحزابهم كما هو حاصل بين رموز «المستقبل» لمناسبة الانتخابات، وكذلك في «التيار الوطني الحر». فما يجري هو تقسيم المقسّم، والاستفراد بكل قسم بعد استضعافه لإخضاعه.