في مثل هذه الأيام من شهر آذار 2022 يستعيد اللبنانيون في الوعي واللاوعي في ذكرى والذاكرة والخيال وفي الحسّ التاريخي، صورة يوم الرابع عشر من آذار عام 2005 يوم احتشد أكثر من مليون لبناني في ساحة الشهداء في بيروت وحولها مجدّدين الايمان بلبنان الكيان. وبالعَلم وفي قلبه الأرزة، وبقَسم جبران تويني وفي قلبه صيغة الحياة المشتركة. لقد كانت الحناجر المليونيَّة تصدح بالثورة وتحديداً بثورة المسؤولية لا بثورة العنف وشتَّان بين الاثنتين.
فما الذي تحقّق، وما الذي لم يتحقّق بفعل «ثورة الأرز» هذه؟
وما هي المعاني والأمثولات الكبرى التي ينبغي ان تبقى في أذهان الأجيال اللبنانيّة على مدى التاريخ؟
1 – كان للكنيسة المارونيّة، وعلى رأسها غبطة البطريرك مار نصرالله بطرس صفير دور محوريّ في قيام ثورة الأرز. فقد دعت الجمعية الخاصّة لسينودس الأساقفة من أجل لبنان السياسيّين اللبنانيّين الى ان يتحمّلوا بشجاعة مسؤولياتهم أمام ضمائرهم وأمام الأمّة والتاريخ، وقالت بشكل واضح وحاسم «فلتعد سيادة لبنان على أرضه وتحريرها من الاحتلال الاسرائيلي تنفيذاً لقرارات الأمم المتحدة. وان السلام الداخلي يجب ان يترجم بجلاء القوات السورية عن لبنان وبانتشار الجيش اللبناني على كامل الأراضي اللبنانية».
ثم كان النداء الشهير لبكركي في 20 أيلول 2000 بإنهاء سلطة الوصاية السوريّة على لبنان واستعادة السيادة والاستقلال والقرار الحر.
2 – في ذات الاتجاه والاهتمام، عمل الرئيس رفيق الحريري مستخدماً علاقاته الدوليّة وخاصة مع الرئيسين الاميركي (بوش) والفرنسي (شيراك) تمهيداً لإخراج لبنان من نظام الخطوط الحمر لهنري كيسنجر فيخرج من وصاية الجارتين التوسّعيتين اسرائيل وسوريا. وكان لاهتمام الرئيس الحريري والقوى الأخرى دور في صدور القرار 1559 من مجلس الأمن بتاريخ 2/9/ 2004 وفيه أمور أساسيّة:
– التأكيد على سيادة لبنان واستقلاله السياسي بحدوده التاريخيّة.
– ضرورة انسحاب كافة القوات الاجنبيّة منه.
– بسط سيطرة الدولة اللبنانيّة على جميع الأراضي اللبنانيّة.
– احترام قواعد الدستور اللبناني.
3 – ان الأهمية الاستثنائية لهذا القرار لا تعود فقط الى إنهاء دور الجيوش الاجنبيّة والمليشيات التي تقضم كيانيّة لبنان وسلطة دولته على مراحل، بل تتعدى ذلك لتؤكد لأوّل مرة منذ انشاء لبنان الكبير، أنّ لبنان هو حقيقة جغرافية وتاريخية وليس خطأً جغرافياً وتاريخياً… وفي كل هذا تكمن خطورة القرار الذي شكّل خطراً على كثيرين وفي مقدمهم الرئيس الشهيد رفيق الحريري، شهيد لبنان الوطن النهائي، لأنّه كان أكثر الفاعلين والمؤثرين في استصدار القرار 1559 الذي كان ولا يزال مفترقًا مصيرياً في تاريخ لبنان والمؤثر الأبرز على نفسية اللبنانيين، وجرى التعبير عنه في النزول الى شوارع بيروت في 14 آذار مع عشرات الآلاف، في حركة تحدٍّ سياسيّة ونفسيّة ضد الاحتلال وعملائه.
4 – لقد عبَّر الصحافي الشهيد جبران تويني عن هذه الثوابت الوطنية بقسمه الشهير في ساحة الشهداء وردّد خلفه عشرات آلاف المتظاهرين اللبنانيين مؤكّدين العهد على خمس مسلّمات:
أ- ايماننا المطلق بالله العظيم الذي نقسم باسمه.
ب- التزامنا الثابت بالصيغة اللبنانيّة القائمة على الحياة المشتركة بين المسيحيين والمسلمين.
ج- وهو التزام يستوجب منّا البقاء موحدين دائماً وابداً.
د- دفاعاً عن لبنان العظيم انساناً وكياناً ورسالة حضارية.
ه- مع اللاّزمة للكلام الوطني: عشتم وعاش لبنان: الشعب والوطن.
لقد كان قَسَم جبران تويني أمام الجماهير بمثابة التزام تاريخي في زمن تاريخي وعلى مفصل تاريخي، تأكيداً لاستمرار شعلة الثورة بقوة الحرية، ودفاعاً عن الحريّة ومن أجل الحريّة!
5 – لقد أعادت ثورة الأرز التأكيد مرة جديدة أن لبنان البلد الصغير جغرافياً هو البلد الكبير، بل العالمي تأثيراً وأهميّة. فقبل ان تعتبر وسائل الاعلام العالميّة إنفجار بيروت في 4 آب ثالث أكبر انفجار في العالم، اعتبرت هذه الوسائل تظاهرة بيروت في 14 آذار 2005 بمقياس نسبي أكبر تظاهرة في العالم، إذ جمعت أكثر من مليون شخص في بلد عدد سكّانه في حدود خمسه ملايين، اي جمعت ما يعادل 20% من السكّان (خمس السكّان) وفي حسابات مقابلة فهذا يعني خروج ثلاثة عشر مليون فرنسي (من أصل 65 مليوناً) للتظاهر في باريس وخروج ستين مليون اميركي (من أصل 300 مليون) للتظاهر في واشنطن. وفي هذه الأرقام ما يكفي من الدلالات على الطابع الاستثنائي والمهم لهذه التظاهرة الوطنية.
6 – ان أهم ما تفتقر حركة 14 آذار اليه وما هي بحاجه اليه هو صياغة رؤية استراتيجيّه للحركة. ذلك ان كل مؤسسة عصريّة سياسيّة كانت أم عسكرية أم ثقافية هي بحاجة الى استراتيجية تحدّد أهدافها وترسم الطريق لتحقيق هذه الأهداف، يضاف اليه ان حركة 14 آذار مؤلفة من عدّة تيارات سياسية وفكريّة وبالتالي فهي بحاجة ماسة الى رؤية موحّدة تكون الاداة الوحيدة لمنع الاختلاف والتفكك وخاصة بوجود قوى مواجهة متمرسة بالعمل السياسي الايديولوجي ولا بد في مواجهتها من قيادة جماعية متضامنة ومتعاونة في قيادة الحركة.
7 – من أهداف حركة 14 آذار التي كانت ولا تزال مطلوبة من الذين ينتسبون اليها، التعمّق في تفسير وضرورة الكيانية اللبنانية وعروبة لبنان الحضارية، ميثاق الحياة المشتركة المسيحية – الاسلامية ومتابعة التحوّلات الايديولوجية داخل الجماعات اللبنانية، والتمسّك الدائم بوثيقة الوفاق الوطني (اتفاق الطائف 1989) والعمل على تطبيقه بكافة بنوده واعتبار القرار 1559 بحسب تفسير الأمم المتحدة بمثابة ترجمة دولية لاتفاق الطائف، والعمل على تكوين مألفة بين فكرتي اللبنانية والعروبة الحضارية والتأكيد على انهما فكرتان تتكاملان ولا تتناقضان. والعمل لبناء مجتمع المعرفة في لبنان وحوله.
منذ بداية تاريخ لبنان كان هذا البلد مقراً للثقافة والحرية والسلام. وعلى عكس ما يظنّ البعض، فإن ثورة الأرز في 14 آذار 2005 لم تغيّر هذا النهج. البعض اخذ عليها انها لم تستعمل العنف لتفرض وجودها ورأيها في مصير لبنان. الجواب على هذا الرأي جاء على لسان الاب بولس نويا اليسوعي حين قال:
«المهم في الثورة ليس العنف بل المسؤولية: المسؤولية نحو الذات ونحو الآخر والمسؤولية تعني الحرية وقابلية الالتزام الواعي! أمّا العنف فهو من مظاهر خوف صبياني يربض في أعماقنا».
نحن اللبنانيين، لم نكن يوماً ولن نكون مع الخوف الصبياني الرابض في أعماقنا، بل مع المسؤولية المعبّرة أفضل تعبير عن حرّيتنا.
… وهذه هي الفلسفة العميقة لحركة 14 اذار!