لم تأخذ القوى المتقاطعة حول أهداف وطنية مشتركة تسمية 14 آذار سوى بِفعل المشهدية الشعبية المليونية غير المتوقعة ولا المسبوقة في يوم 14 آذار، والتي أتت ردا عفويا على المشهدية الشعبية التي دعا إليها «حزب الله» في 8 آذار، وذلك ضمن إطار الوقفات الاحتجاجية الأسبوعية كل اثنين رداً على اغتيال الشهيد رفيق الحريري يوم الاثنين في 14 شباط 2005.
فرضت تسمية 8 و 14 آذار نفسها، وكان يمكن ان تأخذ تسمية مختلفة من قبيل قوى «شكراً سوريا» مقابل قوى انتفاضة الاستقلال او ثورة الأرز، حيث انقسمت البلاد تلقائياً بين من هم مع بقاء الجيش السوري وإبقاء لبنان ضمن محور الممانعة، وبين من هم مع خروج الجيش السوري وإخراج لبنان من سياسة المحاور.
وإذا كانت التسمية هي وليدة يوم 14 آذار الذي شهد تظاهرة شارك فيها معظم اللبنانيين، فإن الإئتلاف الذي ضمّ الأحزاب والتيارات والشخصيات لم يكن وليد ساعته ولحظته، إنما كانت بدأت التهيئة السياسية له منذ فترة طويلة نسبياً، وجاءت التظاهرة الشعبية لتتوّج التحالف السياسي، والأفكار التي حملها هذا التحالف ليست جديدة، ولكن الجديد أنها باتت محمولة من إطار جبهوي بدلاً من ان تكون مرفوعة أحاديا، ما يعني ارتفاع منسوب القدرة على تحقيقها.
وانتهاء دور إطار جبهوي معيّن لا يعني انتهاء صلاحية الأفكار التي حملها، لأن هذه الأفكار موجودة أساساً قبل ولادته وستبقى بعد انفراط عقده، إنما يعني ان تركيبته الإدارية لم تعد قادرة على الصمود بسبب الظروف السياسية والتحديات التي واجهتها، وبمقدار ما ان الفكرة السياسية مهمة، إلا ان الأهم هو من يحمل هذه الفكرة ويعمل على تحقيقها، فلا يكفي المناداة بالسيادة من دون وجود كتلة وازنة تدفع في اتجاه تحقيق السيادة، ولا يكفي المزايدة بالإصلاح من دون وجود كتلة وازنة قادرة على تحويل المشاريع الإصلاحية إلى قوانين، وقِس على ذلك في سياق جدلية الأفكار التي تملأ الأرض، والقوى القادرة على ترجمتها الى أرض الواقع.
فالعناوين السياسية التي رفعتها قوى 14 آذار كانت مرفوعة قبل ان يتشكّل الإطار الجبهوي الآذاري، وهذه العناوين بقيت مرفوعة بعد انفراط عقده، ولكن لا شك ان تفكُّك هذا التحالف انعكس سلباً على المشروع السياسي الذي حمله هذا الفريق بعنوان «العبور إلى الدولة»، لأنه كلما توحّدت القوى التي تحمل هذا المشروع كلما اقترب تحقيقه، وكلما تفرّقت كلما ابتعد تحقيقه.
ولا يمكن تشبيه انفراط عقد 8 آذار بانفراط 14 آذار لسبب جوهري وأساسي وهو ان مشروع الفريق الثاني هدفه رفع يد الفريق الأول عن البلد، هذا الفريق الذي استكمل دور النظام السوري بتغييب الدولة وإبقاء لبنان ورقة في يد محور الممانعة، ومع تفكُّك إطار 14 آذار وتراجع الخطر على مشروع 8 آذار السياسي لم يعد من مبرر ولا جدوى لاستمرار إطار 8 آذار.
فالمستفيد الأول من انهيار جبهة 14 آذار هو جبهة 8 آذار بسبب تراجع الخطر على مشروعها السياسي، وما الحاجة لأن توحِّد 8 آذار صفوفها وتجمعها طالما ان هذا الخطر لم يعد قائما، خصوصا انّ الوضع السائد هو الوضع الذي يناسب هذا الفريق، وليس في استطاعته تحقيق أكثر من ذلك بمعنى إعادة البلد إلى زمن الاحتلال السوري، ومن الطبيعي ان يتراخى ويعطي انطباعا ان جبهته مفككة تلافياً لشد عصب القوى التي تفكّكت.
فالفارق الجوهري إذاً هو ان انهيار جبهة 14 آذار يشكل انتكاسة وخسارة للمشروع السياسي الذي يحمله هذا الفريق، فيما انهيار جبهة 8 آذار لا يؤثِّر على مشروعه السياسي، وبالتالي لا توازن في الخسائر. والفارق الجوهري الثاني بين الجبهتين هو ان «حزب الله» ورثَ الجيش السوري وتحوّل إلى الإشكالية الأبرز بعد خروج هذا الجيش، وبالتالي بمعزل عن وجود جبهة 8 آذارية من عدمها فإن المشكلة هي مع سلاح الحزب ودوره على غرار ما كانت عليه سابقاً مع الوجود السوري.
فقوة 8 آذار متأتية من قوة «حزب الله»، ولا وجود لهذه الجبهة من دون الحزب الذي يشكل العمود الفقري لقوى 8 آذار التي تلتف حوله من أجل ان يمنحها السلطة والمال والنفوذ ويجعلها فوق القانون، فيما الوضع مختلف تماماً مع جبهة 14 آذار التي من المؤكّد أنّ عمودها الفقري هو المشروع السياسي وليس فريقاً بعينه، وقوتها كانت في ائتلاف أحزاب الطوائف الأكثر تمثيلاً لدى المسيحيين والسنة والدروز إلى جانب رأي عام سيادي وازن وعابر للطوائف.
فما الذي تبدّل في الوضع على أرض الواقع بين مرحلة تَماسك جبهة 8 آذار ومرحلة تفكُّك هذه الجبهة؟ لا شيء، فما زالت الدولة مغيّبة، و»حزب الله» يتباهى بصناعة المسيّرات والصواريخ وعديد جيشه، فيما الوضع مختلف مع تفكُّك جبهة 14 آذار حيث تراجع الخطر على مشروع الحزب الذي لا يمكن مواجهته سوى في وحدة موقف وصفّ على غرار المواجهة التي حصلت مع النظام السوري، والحزب هو أكثر المستفيدين من انهيار تحالف القوى السيادية، لأنّ من مصلحته مواجهة هذه القوى بصفوف مشرذمة لا موحدة.
وما يجب تسجيله أيضاً انّ انهيار جبهة 8 آذار لم يحوِّل القوى الحليفة للحزب او الملتحقة به إلى قوى خصمة له، ما يعني ان انهيار الجبهة لم يبدِّل شيئاً في علاقة هذه القوى بالحزب والتي ما زالت تدعم سلاحه ودوره، وما يعني أيضا انه بتحالف او من دونه ما زال الوضع بين هذه القوى هو نفسه، فيما العلاقة بين القوى السيادية تبدلت وتراجعت والرأي العام السيادي انكفأ وأُحبط.
وعلى رغم ان لكل إطار ظروفه السياسية ويؤدي الدور المطلوب منه في المرحلة التي ينوجد فيها، ولكن ما يجب تسجيله على هذا المستوى انّ جبهة 14 آذار فشلت حيث نجحت الجبهة اللبنانية في إخراج الثورة الفلسطينية التي شكلت الشرارة الأولى في الحرب وانتخاب بشير الجميل رئيساً للجمهورية، كما فشلت حيث نجحت جبهة البطريرك مار نصرالله بطرس صفير في إخراج الجيش السوري من لبنان، ولن ندخل اليوم في أسباب نجاح جبهتي الكسليك وبكركي وفشل جبهة 14 آذار.
ويبقى ان التحدي الأساسي أمام القوى السيادية في ذكرى انتفاضتها يتمثّل في ثلاثية أساسية:
ـ التحدي الأول إعادة توحيد صفوفها لأنه من دون وحدة صفّ لا يمكنها مواجهة «حزب الله»، ويعني ان المستفيد الأول من تَشرذمها هو الحزب، ويعني ان لبنان سيبقى من دون دولة وسيادة واستقلال، فيما وحدتها تعيد الأمل لمشروع الدولة الذي من دونه سيبقى الوضع في لبنان كارثياً ومأسوياً.
ـ التحدي الثاني ان تستفيد من الانتخابات النيابية لدفع مشروع الدولة قدما، والمهم ليس في تحالفاتها قبل الانتخابات، إنما في ائتلافها بعد هذه الانتخابات، وان تحوِّل الاستحقاق النيابي إلى استفتاء على المشروع السياسي وتكون الانتخابات بمثابة انتفاضة شعبية جديدة، لأنّ إخراج «حزب الله» من السلطة يجب ان يكون هدفا استراتيجيا، ولا يجب الخشية من استخدام سلاحه رفضا لنتائج الانتخابات، لأن استخدام هذا السلاح يشكّل مناسبة لاستدعاء التدخل الخارجي تمهيداً لمؤتمر دولي.
ـ التحدي الثالث ان تعيد بلورة مشروعها السياسي ليس على قاعدة واحدة هي السيادة على رغم أولويتها وتقدمها على اي عنوان آخر، لأنه من دون سيادة ودولة لا يمكن الكلام عن إصلاح ولا تغيير، إنما بلورته على قاعدة الدولة الناظمة للحياة السياسية، وإدارة هذه الدولة بطريقة شفافة ونظيفة.
وقد شكّلت انتفاضة الاستقلال الأمل بلبنان الدولة والسيادة والازدهار والاستقرار، ومَن صنعَ الانتفاضة هم الناس، وكل ما هو من صناعة البشر يمكن تكراره وبنسخ أفضل من أجل تحقيق الهدف الذي فَوّتته جبهة 14 آذار وهو قيام الدولة التي تحتكر وحدها السلاح.