على الرغم من الحالة الإقتصادية والمالية الصعبة التي يمر بها لبنان ورغم التهويلات التي رافقت هذه الحالة في الفترة الأخيرة، ظلّ حاكم مصرف لبنان رياض سلامة ينأى بالليرة اللبنانية وبسياسة المصرف المركزي المالية عن كل هذه الصراعات ومنع انزلاقها نحو الأسوأ. لكن بعد نجاح سلامة في تثبيت الإستقرار المالي فُتحت بوجهه حروب أخرى وهذه المرة من بوابة “الإسكان” وتحميله مسؤوليات هذا القطاع وخصوصاً شق القروض المدعومة الفوائد التي كان يقدمها البنك المركزي عبر المؤسسة العامة للإسكان وبعض المؤسسات المعنية بهذا القطاع.
الهجمات التي يتعرض لها حاكم مصرف لبنان اليوم بدأت تنكشف على يد أصحابها حتى بدا وكأن هنا أمر عمليات لاستهداف الرجل صادر عن قوى الثامن من آذار هدفه التصويب على إنجازات القطاع المالي ومنع إنهيار الليرة على النحو الذي ينهار فيه البلد بفضل العراقيل والعقد المصطنعة التي توضع في وجه تأليف الحكومة. وربما السبب الأبرز لاستهداف سلامة اليوم، عدم تجاوبه مع حملة التشويه التي تُشنها قوى “8 آذار” على السياسة المالية المتبعة، فهي تريد لهذه السياسة أن تنهار كلياً وتتداعى تبعاً لمشروعه الهادف إلى إفراغ البلد من مؤسساته وتعريته أمام الداخل والخارج فقط لتحميل جهة محددة مسؤولية إنهيار لبنان كما في السياسة، كذلك في الوضع المالي والاقتصادي والإجتماعي.
في مواجهة الجبهات التي فتحتها “8 آذار” على سلامة، كان رفع رئيس الحزب “التقدمي الإشتراكي” وليد جنبلاط الصوت في تصريح لفت فيه إلى انه “في إنتظار اللون والشكل لعقدة المستقلين يأتي إنذار البنك الدولي ليقول لنا ان خلاف الاغريق والفرس سيدمر الاقتصاد اللبناني الى جانب الاهمال واللامبالاة اللذين جعلا المواطنين يغرقون في مياه الوحول والمجارير ويتعرضون للاخطار والعذاب ساعات وساعات”، معتبراً أن “مشروع عاشور هو احتقار للفقراء”.
تحذير جنبلاط هذا إذا ما تمت مقارنته مع الهجمة على “الحاكم”، يصب في استنتاج واحد رفض سلامة المشاركة في هزّ صورة لبنان الإقتصادية والمالية خلال استضافة لبنان القمة العربية التنموية الاقتصادية والاجتماعية، وإصراره على حماية استقرار الليرة وعدم رفع سيف التهويل أمام الأشقاء العرب. الأسئلة الأبرز: هل يُكافأ رياض سلامة بحملة مبرمجة من فريق موصوف بتعطيل البلد، لأنه دعم من خلال مصرف لبنان القروض الإسكانية بأكثر من 4 مليارات ليرة يوم كان البلد يُعاني من فراغ رئاسي، وهل رياض سلامة يتحمل مسؤولية غياب الكهرباء وتلوث المياه وعدم التقيد بسعر الدواء؟ ربما ذنب رياض سلامة انه في بلد هدف البعض فيه تشتيته عن موقعه الصحيح أو تحويله إلى دويلات.
من النافل القول أن استهداف مصرف لبنان وحاكمه في هذا التوقيت بالذات يتماهى مع محاولة قوى “8 آذار” ضرب الثقة الأوروبية والعربية بلبنان وإخضاعه لمحور واحد. والمُلاحظ أن هجوم هذه القوى وإعلامها اشتد بعد التصاريح التي ادلى بها سلامة والتي أكد فيها حفاظه على السياسة المالية والنقدية لكن شرط تثبيت الإستقرار السياسي والأمني. يبدو أن مطلب سلامة مبالغ به لدى البعض ويبدو أنه أدى إلى كشف نواياهم أمام اللبنانيين عموماً، وامام جمهورهم على وجه التحديد خصوصاً وأن الأزمة المعيشية واقعة على الجميع وليس على فئة دون أخرى.
اللافت أيضاً، أنه ورغم كل الظروف الصعبة التي يعمل بها سلامة، بقيت الثقة العربية والدولية بالسياسة المالية للدولة اللبنانية، وهذه السياسة الحكيمة والعاقلة وغير المتهورة هي التي دفعت وتدفع المجتمع الدولي لمد يد العون للبنان. وهذا الثبات وإتزان التعاطي مع الإستحقاقات الصعبة ومواجهتها، يُمكن الإعتماد عليه طالما أن هناك إطمئناناً يبثه الحاكم سلامة عند كل إطلالة ودائماً من بوابة “إن الوضع الاقتصادي في لبنان ممسوك ولا خوف ابدا على الليرة. لبنان لديه مقومات تسمح بألا ينهار سعر صرف الليرة والاقتصاد اللبناني”.
بين الأكيد والمؤكد، أن ثمة واقعاً مأزوماً مرّاً يعيشه اللبنانيون اليوم، وهذا الواقع المتمدد نتيجة تعطيل حركة البلد السياسية والإقتصادية والإجتماعية على يد فئة محددة تمتلك كل مقومات التعطيل، لا يُمكن أن يُنتشل مما هو فيه إلا من خلال تشكيل الحكومة والذهاب إلى مؤتمر “سيدر” والحصول على الـ11 مليار ونصف المليار دولار. لكن طالما أن هناك عقلية فوقية هي التي تتحكم بمسار ومصير البلد، يبدو أن التعطيل سيظل قائماً إلى حين أن ترأف القوى المُعطلة بحال البلاد والعباد.