في مثلِ هذا الشهرِ سنةَ 2005 خَرجَت 8 آذار تَبكي رحيلَ سوريا، و14 آذار تَبكي رحيلَ رفيق الحريري. اليومَ، بعدَ ثلاثَ عشْرةَ سنةً، رفيقُ الحريري يَبكي على 14 آذار، والنظامُ السوريُّ يُــزَغرِدُ لــ8 آذار. الحريري يَتساءل لماذا استُشهِدَ طالما نقلوا ساحةَ الشهداءِ إلى ساحةِ رياض الصلح، والنظامُ السوريُّ يَتساءل لماذا انسحَبَ طالما عاد. 14 آذار زَرعَت لكنَّ «حزبَ الله» وإيران وسوريا حَصَدوا.
كلُّ الظروفِ كانت مهيّأةً لقِوى 14 آذار وتراجعَت، وكلُّ الظروفِ كانت مُضادّةً لـقِوى 8 آذار وتقدَّمت. أساءَت قِوى 14 أذار التصرُّفَ تجاه نفسِها فتشَظّى لبنانُ أيضًا لأنّها أَحبَطَت مشروعَ لبنانَ التاريخيَّ مرّةً أُخرى. وأساءَت قِوى 8 آذار التصرُّفَ تجاهَ لبنان فأَصابَت نفسَها أيضًا لأنَّ مشروعَها مناقِضٌ هويّــةَ لبنانَ التاريخيّة.
صَقلَت 14 آذار مشروعًا لبنانـــيًّـــا فدَعمَها أصدقاءُ لبنان، فيما تَـبنَّت 8 آذار مشروعًا خارجيًّا ودَعمَته. والغريبُ، أنَّ قِوى 8 آذار تَـحمَّست لمشروعِ «الآخَرين» وحوَّلته قضيّةً آمنَت بها وقدَّمَ حزبُ «الله» في سبيلِها شهداءَ في لبنانَ وسوريا والعِراق واليَمن، بينما قِوى 14 آذار عَبثَت بمشروعِها واختَزلَت قضــيّـــتَها باحتفالٍ مَسْرحيٍّ سَنويٍّ تُقيمه رفْعَ عتبٍ في «البيال»، رغمَ سقوطِ شهداءَ لها في سبيلِ لبنانَ فقط.
صار بعضُ 14 آذار يَعتبر الشهداءَ عبئًا يُعيق استدارتَه وشرودَه. يكفي أنْ نَسمعَ قادةَ حزبِ «الله» لنرى كيف يُـمجِّدُون شهداءَهم، وحسنًا يَفعلون؛ وأنْ نسمعَ قادةَ 14 آذار لنلمُسَ تغييبَ شهداءِ «ثورة الأرز»، وبئسَ ما يَقترِفون.
بمنأى عن مضمونِ مشروعَـيْهِما، كان يُـمكن لظاهرتَي 8 و14 آذار أنْ تكونا، بحدِّ ذاتِـهما، مشروعًا يُـجدِّدُ الحياةَ الديمقراطـيّـةَ في لبنان، فيَنقُلها منَ العَدديّةِ الطائفيّةِ والعائليّةِ والعشائريّةِ الفالِتةِ من أيِّ نُظُمٍ وقواعدَ إلى ثنائـيّـةٍ حزبيّةٍ مختَلَطةٍ تَرفِدُ الديمقراطيّةَ اللبنانيّةَ بنظامٍ حزبيٍّ على غرارِ الدولِ المتطوّرة.
أحزابُ لبنانَ حاليًّا ترفعُ شعارَ الديمقراطيّةِ وتُطبِّقُ آليّةَ الديكتاتوريّةِ على أعضائِها. والطريفُ أنَّ العديدَ مِن القِوى العائليّةِ والمناطقيّةِ التقليديّـةِ مَسَّها التِرياقُ الحزبيُّ فأسَّست أحزابًا فرديّةً، لكنّها تَــلطَّفَت وأَعْــفَت مناصريها من الانضمامِ إليها، فَبقِيَ الحزبُ لحاملِه. هكذا، لدينا ديمقراطيّةٌ من دون ممارسةٍ ديمقراطـيّـةٍ، وأحزابٌ من دونِ نظامٍ حزبيٍّ، ووطنٌ من دونِ ولاءٍ وطنيّ.
لو قُــدِّرَ لهاتين الظاهِرتين (8 و14 آذار) أنْ تَتحوّلا حزبين كبيرين متنافسَين، لــتَحَــقَّــقت الانجازاتُ التالية: لَبنَنةُ الطرفين، الخروجُ من الاصطِفافِ العِدائيّ، تعزيزُ الديمقراطيّةِ، إحياءُ مَبدأ الموالاةِ والمعارَضة، تأليفُ حكوماتٍ مُتجانِسةٍ، وقفُ التنازلاتِ على حسابِ المبادئ، تحقيقُ الاختلاطِ الوطنيِّ، إلغاءُ الطائفيّةِ، إيجادُ قانونٍ طبيعيٍّ للانتخاباتِ النيابيّةِ، تثبيتُ تداولِ السلطة، إغناءُ الحياةِ البرلمانيّة، وإجراءُ الاصلاحاتِ الدستوريّةِ والدفاعيّةِ والتربويّة.
نشوءُ مثلِ هذين الحزبَين الكبيرَين يُشَجِّع، استطرادًا، القِوى الباقيةَ خارجَهما على الاندماجِ وتشكيلِ قوّةٍ ثالثةٍ للمحافظةِ على دورِها، وبذلك يصبحُ التنافسُ السياسيُّ بين حزبين وخيارٍ ثالث. مِن شأنِ هذا النظامِ أن يَنقُلَ المنافسةَ للوصولِ إلى الحكم من شكلِ المرشَّحين إلى عقلِ الناس، ومن تنافسِ المرشَّحين على الناسِ إلى تنافسِ الناسِ على البرامج. وهكذا يُضْطرُّ كلُّ حزبٍ أنْ يقدِّمَ برنامجَ حكمٍ يَـلتزمُ بتحقيقِه في حالِ فوزِه تحتَ طائلةِ المحاسَبة.
في ظلِّ التخَـبُّطِ السياسيِّ القائمِ، انعدَمَت المحاسبةُ؛ وإذا ما خَطَرت على بالِ مواطنٍ، يختارُ مرشّحًا آخَرَ لا مشروعًا آخَر مثلَ مَن يَشرَبُ مِن مياهِ النهرِ ذاتِه إنّما من الضِفَّةِ الأُخرى.
دورُ الحزبِ الثالثِ الصغير ــ وأُسَـمّيه «حزبَ التوازن» ــ لا يَـقِلُّ أهمـيّـةً عن ذينِكَ الحزبين الكبيرين. فهو عَدا أنّــه يُــمثِّل الخِيارَ الآخَر للشَعب، يَـحُدُّ من سيطرةِ الحزبين، يَدفَع بهما إلى احترامِ برنامَـجَــيْهِما، ويؤمِّنُ استقرارَ الأكثريّـةِ الحاكمةِ إذ إنه – في حالِ عدمِ حصولِ أحدِ الحزبَين الكبيرَين على الأكثريّــةِ المطلَقةِ ليَحكُمَ وحدَه – يَستَنجِدُ بالحزبِ الثالث (التجربةُ الألمانيّةُ عمومًا).
هذا الحلمُ الآذاريُّ يَصطدِمُ بقادةِ 8 و14 آذار الّذين يعارِضون هذا المشروعَ التقدّميَ ويعتبرونَه يَقضي على خصوصيَّتِهم وفرديَّتِهم وإرثِهم وتراثِهم وعَلاقاتِـهم الخارجيّة. بالمقابِل، تُوجد شخصيّاتٌ ونُـخَبٌ في الصفَّين الثاني والثالث من قِوى 8 و14 آذار تَصْبو إلى هذا التغييرِ النوعيّ، لكنّها مسحوقةٌ وطـيّعةٌ وتَفتقِدُ روحَ التمرّدِ وقلبِ الطاولةِ.
قد لا يكونُ نظامُ الثنائيّةِ الحزبيّةِ المختلَطةِ مِثالـيًّـا، لكنّه الأفضلُ لانتشالِ لبنانَ من واقعِه الفُسيفَسائيِّ المبعثَرِ وطنيًّـا وطائفيًّا واجتماعيًّا وحضاريًّا ولإعادة توحيده. فاللبنانيُّون اليوم، خلافًا لما نظنُّ، لا يعيشون في ظلِّ تعدديّـةٍ حضاريّـةٍ راقيةٍ فيَتبادلون خصوصيَّاتِـهم الثقافيّة، إنّــما في ظلِّ عَدديّةٍ مذهبيّةٍ وطائفيّةٍ وعشائريّةٍ ويَتبادلون ثقافةَ العداوةِ والتخوين.
وعلاوةً على أنَّ استمرارَ هذا الواقعِ يُهدِّد وِحدةَ لبنان، فإنه يَحولُ دونَ بروزِ أكثريّاتٍ نيابيّةٍ وحكوميّةٍ منسجِمةٍ فكريًّـا ووطنـيًّـا، ما يَدفعُ القِوى السياسيَّةَ المتعطِّشةَ إلى الحكمِ إلى إجراءِ تسوياتٍ وتفاهماتٍ على حسابِ مبادئِها الوطنيّةِ ومشروعِها السياسيّ. وهذا ما حَصَل في الانتخاباتِ الرئاسيّةِ الأخيرةِ وسَيُعادُ في الانتخاباتِ النيابيّةِ المقبلة.
جمهورُ 14 آذار ليس ضِدَّ إنجازِ تسويةٍ تاريخيّةٍ مع قِوى 8 آذار. فالوفاقُ الوطنيُّ جُزءٌ لا يَتجزّأُ من مشروعِ «ثورة الأرز». وأصلاً ما قامت «ثورةُ الأرز» ضِدَّ فئةٍ شعبيّةٍ لبنانيّة، بل ضِدَّ الاحتلالِ السوريِّ ورموزِه المحليّة. لكنَّ التسويةَ هي لقاءٌ لا التِحاقٌ، هي اقترابٌ متساوٍ، وهي اقترانُ المبادئِ بالثوابتِ الوطنيّةِ والدستوريّةِ لا بالمصالحِ الوصوليّةِ والماديّـة.
ما جرى في لبنان زادَ الحياةَ السياسيّةَ اللبنانيّةَ غموضًا وأضعَف التَيّارَ السياديَّ وقدَّم الـحُكمَ لخصومِ «ثورةِ الأرز» عِوضَ أنْ يعيدَ تنظيمَ الديمقراطيّةِ اللبنانيّةِ على أُسسِ الشَراكةِ العصريّة. ليس صحيحًا أنَّ التسويةَ أَخرَجت البلادَ من اصطفافَـي 8 و14 أذار، بل الصحيحُ أنها أَخرجَت 14 أذار من المعادلةِ ليبقَى اصطفافُ 8 آذار ويَنتقلَ من الساحاتِ إلى المؤسّسات.
حبّذا لو يُــقـيِّـمُ الآذاريّون مسيرتَهم بعيدًا من موازينِ القِوى السابقةِ والحاليّةِ ويُـحوّلون الاصطِفافَ السلبيَّ فُرصةً تاريخيّةً. فتنظيمُ الحياةِ الديمقراطيّةِ في لبنان ليست فعلاً سياسيًّا عاديًّا، بل هو إنجازٌ وطنيٌّ يَرقى إلى مستوى الدستورِ ووِحدةِ لبنان. وحبّذا أنْ يبدأَ هذا التحوّلُ من خلالِ قيامِ تحالفاتٍ انتخابيّةٍ طبيعيّة تؤدّي إلى الثنائيّةِ المنشودة، فالثنائيّة الحزبيّةُ المختَلَطةُ هي الحلُّ للتعدديّةِ الطائفيّة.