IMLebanon

هوامش على بيان «مستقلّي» 14 آذار

عندما قرأت بيان «الهيئة التحضيرية للمجلس الوطني لمستقلي 14 آذار« الذي تلاه المناضل والمفكر الكبير سمير فرنجيةـ، حاولت تبيان العناصر الأساسية التي ميزت هذا البيان الذي قدم الخطوط العريضة لهذه الهيئة الناشئة ما هو قديم متداول منها، وما هو جديد، وما وراء السطور وما خارجها.

«لفتني في البداية عبارة «مستقلي» 14 آذار وهي تعني في السياسي الانخراط الاختياري دون الانتماء الحزبي، أو الطائفي؛ أي داخل 14 آذار لكن على «تميز» أو تمايز، أو مسافة، أو بقعة متصلة وغير متصلة. وهذا شأن كل «مستقل» وهناك الألوف التي تنطبق عليهم في 14 آذار هذه التسمية من الذين شاركوا في التظاهرة المليونية التي اسقطت نظام الوصاية السورية في لبنان، وكانت حدثاً مدوياً، غير مسبوق في العالم العربي. انهم الجمهور العريض المختلط الذي توحده فكرة تحرير لبنان من الاستبداد الخارجي والحلم بدولة مستقلة، ديموقراطية، تعددية، عادلة، وجيش يحمي الحدود والناس. يومها سميت هذه الظاهرة بـ» الربيع اللبناني» أو «ربيع الأرز» أو الانتفاضة الكبرى. وعندما بدأت الثورات العربية في بداياتها الشعبية، تسقط الطغاة واحداً بعد الآخر، من تونس إلى مصر، إلى ليبيا، فاليمن، قلنا إن ربيع الأرز هو مفتتح الربيع العربي ومثاله. والغريب أن هذه العبارة لم ترد في بيان اللجنة التحضيرية، ولا حتى عبارة «الربيع العربي» التي باتت معتمدة في كل صفحة ووسائل الاعلام العالمية، والمناضلين العرب.

ونظن أن ما صنع هذا الربيع العربي العظيم هم الناس «المستقلون: الأحزاب كانت تتصدر وكذلك المثقفون من يساريين ويمينيين وليبراليين. وهنا بالذات، يمكن استدلال معاني «مستقلي» 14 آذار. أي الذين شاركوا ويشاركون واستشهدوا وهم على هامش الأحزاب اللبنانية، أو على تماس بها، أو على تقاطع مستمد من لقاء الأهداف والوسائل، لا الالتزامات الحصرية.

[الرأي العام

وهنا تلفتني أيضاً «جملة» اشتراك الرأي العام الاستقلالي في تعيين الخيارات الأساسية من الانخراط المباشر في معركة انقاذ لبنان والحياة الوطنية والسياسية«. لكن، مشاركة الرأي العام موجودة في أساس الانتفاضة، وهي جسم التحركات، وضميرها، وحيويتها. لكنها «جَمدت» لأسباب كثيرة متصلة بالوقائع الميدانية والأمنية وبوجود فريق لبناني (ايراني- سوري حزب الله والممانعة) مسلح، يحاول بسلاحه تهديم تفاعلات الانتفاضة، ومنع تكرسها قوة فاعلة في الميادين وفي المجالات الانتخابية. كأنما دعوة «الهيئة» إلى الانخراط الشعبي العملي، واستعادته دور ومحاولة تجديد الأواصر به، تأتي بعدما انتقلت انتفاضة الاستقلال إلى مجرد عمل سياسي، استفردته الأحزاب وأدى سلوك بعضها إلى ايجاد فجوات داخل هذا الجمهور نفسه لجره، إلى الاصطفافات الذائبة في السياسة الآنية والمصلحية. فالانتفاضة سبقت الأحزاب، لكن الأحزاب عادت لتسابقها، ويؤدي ذلك إلى «هلهلة» أو بلبلة، في علاقة هذه الجماهير «المستقلة» بثورة الأرز. (قد يكون هذا ما حدث بعدها في تونس وخصوصاً في مصر وإلى حد مختلف في سوريا). أي تحويل الانتفاضة ورقة، من أوراق التنافس السياسي. من هنا أهمية بيان الهيئة التحضيرية التي وان لم تفدنا بهذا الواقع فهي تحاول استلحاقه. (وكلنا يعرف اليوم أين صارت أحزاب 14 آذار: وبعض الأحزاب خرقت شمولية الانتفاضة ولبنانيتها بطرح مشاريع انزوائية كـ»القانون الارثوذكسي» أو عقدت لقاءات سياسية لا علاقة لها بفكرة الربيع اللبناني، لقاء عون جعجع والذي من حسناته انه يخفف التوتر المسيحي المسيحي. لكن لماذا لم يكن هذا التوتر موجوداً ابان التحركات الشعبية لانتفاضة 14 آذار؟ ويعني هذا محاولة بعض الأحزاب استيعاب تلك الاختيارية الشعبية العارمة في أطر ضيقة، آنية، وسياسية. بمعنى آخر تجميد هذه القوة الاستقلالية خصوصاً في التداعيات التي اعقبت 7 أيار الشاروني، وظهور كيانات سلفية وأصولية في بعض بقاع لبنان، أصابت روح الانتفاضة.

[الانكفاء

لكن الهيئة التحضيرية رأت ان «مجلسها الوطني «حاجة» في مواجهة الانكفاء الطوائفي عبر ايجاد اطار مدني حديث قادر على تخطي الترسيمات الطائفية والمذهبية وعلى وضع الأسس لدولة مدنية محررة من الاكراهات الطائفية«. تقصد في العمق ايجاد صيغة تفصل الدين عن الدولة. هذا هو المبتغى العميق المضمر غير المصرح به مباشرة.

فالإكراهات الطائفية من صنيعة مجمل الأحزاب التي صُنعت ميليشياتها في الحروب، بما في ذلك الأحزاب اليسارية واليمينية التي دخلت في حرب جعلت كل الذي «صنعوها» طائفية من القوى الخارجية وأصدائها الداخلية. ونظن أن هذه الظواهر المذهبية ليست منفصلة عن كثير من المكونات الحزبية الراهنة. وهنا صعوبة افراز، ما هو إكراهي بالمذهبية وما هو استقلالي، وما هو هامشي. فالإكراه المذهبي ديدبان حزب الله والنظام السوري وما زال بقوة السلاح والدعم الخارجي قادراً على بعثرة كل دعوة إلى وضع أسس مدنية لدولة متحررة من الإلزامات الطائفية. أكثر: ان معالجة مثل هذه الأمور، أي تعميق الانتماء الوطني التي ظهرت بوادره في ثورة الأرز، أصابه وهن واحباط وخيبة ليست من أحزاب القهر والممانعة فقط بل من الأخطاء والتماهيات والارتباطات التي لازمت الكثير من مكونات 14 آذار.

[المستقلون الآخرون

لهذا فالبحث عن جماهير مستقلي 14 آذار، يجب ان يشمل أبعد منها اليوم. أي في الفئات التي تخضع لإكراهية السلاح والارهاب من الضفة الأخرى. أو التي اضاعت البوصلة وكانت داخل هوامش 8 آذار خصوصاَ بعض الأحزاب والشخصيات الثقافية والفكرية والسياسية التي وجدت نفسها في هذا الخضم الطاغي في 14 آذار خارج اللعبة وهي التي كانت من المحركات النضالية والشعبية والاعلامية المساندة لثورة الأرز. كأنما «اقليات» 8 آذار بالمعنى التهميشي، لا تختلف عن «اقليات« 14 آذار بحيث أهملت المكونات الثقافية والفكرية لمصلحة السياسات المباشرة، فكادت تعبث بكل طاقة مستقلة، مذهبياً، أو متمردة على أحزاب طائفتها. (والحمدالله ان سمير فرنجية وهو من هذه الفئة هو الذي تلا بيان الهيئة لكن أين الآخرون؟).

نقول هذا لأن خريطة الجمهور في 8 آذار بدأت تتبلبل وتصيبها الفجوات والاهتزازات خصوصاً بعدما ساق حزب ايران في لبنان ألوف الشباب الشيعة قرباناً في حرب ليست حربهم دفاعاً عن نظام دكتاتوري أو خدمة للنفوذ الفارسي. القواعد باتت عند «حزب الله« مضغوطة تعاني ما سبق أن عاناه الشعب اللبناني من قمع الحزب وترهيبه وتهديده. واذا كانت صرخة أم الشقيقتين من آل شمص اللتين خطفهما «غستابو» الحزب، قوية، وفاضحة، وصافعة، لجبروت الحزب، فإن هذه الصرخة لا هي يتيمة ولا وحيدة، ولا منعزلة. إنها رأس جبل الجليد. لهذا نقول إن مهمة المجلس الوطني الناشئ، أن يمد جسوراً نحو تلك القواعد، إضافة إلى أمكنة أخرى، التي باتت بسبب معاناتها، رافضة للعنف، وللاتبعية، والسطوة البوليسية والأمنية. كما بدأت تظهر بوادر أن هناك في بيئة الحزب من بدأ يراجع خياراته، وينزع إلى نوع من الاستقلالية الاختيارية. فخطاب «اللجنة» السياسي يجب أن يتجاوز محاورة الذات، أو مونولوغات الموقع الواحد، إلى تعددية باتت إلى حد ما مهيأة للإصغاء إلى 14 آذار عموماً.

[النهضة العربية

لكن أبرز ما استوقفني في مضمون بيان اللجنة التحضيرية، هو هذه الرهافة المتجددة المنفتحة على العالم العربي. وكأنها المرة الأولى، منذ أيام عبدالناصر، تُرسم خريطة تواصل مع «قوى الاعتدال والديموقراطية». وهذه نقطة يجب التركيز عليها، لأنها تتخطى الدعوات الانكفائية المحلية، والمناطقية، والسياسية وحتى الثقافية عند بعض مكونات 14 آذار و8 آذار. فهذه الأخيرة قطعت مع فكرة العروبة والأفق العربي في تاريخه القديم والحديث. قطعت 8 آذار، بارتباطها بإيران وبنظام الأسد، جذورها الأصلية، لتصنع جذوراً اصطناعية هشة غير قادرة على الحياة. وبدعوة اللجنة التحضيرية هذه إلى تجديد التواصل (كان موجوداً في زمن النهضة والثورات العربية، كثورة الملك فيصل الكبرى)، في أُطُر أوسع وأرحب وأخصب وأجدى. فالعالم العربي بعد عبدالناصر، ومن خلال بعض الأنظمة «الثورية» الفاشية التي ضربت فكرة العروبة لمصلحة المذهبية والعائلية والمناطقية (كصدام حسين وحافظ الأسد وولده، وعلي صالح…)، وقع إلى حد كبير إما في الهويات القاتلة، أو في «اللاهوية«.

ومن هنا القول، أن دعوة مستقلي 14 آذار إلى عقد هذا التواصل هو استعادة روح الربيع العربي، الذي فتح بأعجوبة كل حيويات الشعوب العربية على بعضها، في ثورة كأنها ثأر من أنظمة تنكرت لكل القيم.. الدعوة هي موافاة جذور الربيع العربي والثورة الكبرى في بدايات القرن العشرين. والأوضاع ليست متباعدة: فالعثمانيون دأبوا على تتريك الإدارة العربية والعقل العربي واللغة العربية والثقافة، والعمل على إدامة عصر الانحطاط. اليوم عندنا إيران، تتماهى بالعثمانيين، في نشر ثقافة العداء لكل ما هو عربي، وتسفيه كل المحطات التنويرية، وضرب المجتمعية المفتوحة بين العرب، في محاولة «لفرسنة« كل شيء، تماماً كما عمل العثمانيون على تتريك كل شيء. الوضعان متشابهان إلى حد كبير، حتى في طرق الاختراق: العثمانيون جاؤوا باسم الخلافة الإسلامية، والإيرانيون باسم ولاية الفقيه. أي الخلفية المذهبية، التقسيمية التي اعتمدها كل المستعمرين الذين تسلطوا على لبنان وعلى العالم العربي. من هنا بالذات، ومن أجل الخروج من المستنقعات العثمانية، كان للنهضة العربية التنويرية الدور الأساسي في استعادة التواصل العربي، فكرياً ولغوياً، وسياسياً، وثقافياً.

وهنا يمكن تشبيه النهضة العربية بظروف الربيع العربي: استعادة التاريخ والحرية والاستقلال والديموقراطية وفكرة التنوير والتعددية. وهذا بالذات ما جعل النصف الأول من القرن العشرين ومنتصف القرن التاسع عشر، صحوة عربية. هنا تحضرني قصيدة لناصيف اليازجي بعنوانها «قوموا وأفيقوا أيها العرب» صاغها في القرن التاسع عشر. إنها صرخة تشبه الصرخة التي أطلقتها بعض الأنظمة العربية في دفاعها عن اليمن، وتحريرها من الاستعمار الفارسي، لكن هذا التواصل العربي المنشود الذي يدعو إليه «المجلس الوطني»، لا يمكن أن يتم إلاّ بتحقيق الانفتاح على «تراث النهضة العربية»، أي الحركة التنويرية التي لعبت أدواراً أساسية في تطوير المجتمعات العربية، وآفاقها، وانتماءاتها.. و»تراث النهضة العربية»، ليس مسألة تجريدية أو شعارية، فهو معماريات فكرية وفلسفية وسياسية وعلمية تنامت على مدى قرن، وكانت شعلة التمرد على الاستعمار التركي، وكلنا يذكر مذابح جمال باشا، وإعدامه مئات المعارضين اللبنانيين لوجوده. ولم يكن الشهداء سوى جزء من التنوير السياسي، ولكن الثقافي أيضاً، الفكري ولكن أيضاً اللغوي. لهذا نظن أنه يمكن إدراج مسألة تعزيز اللغة العربية الأم في مناهج التعليم، وفي وسائل الإعلام والصحافة والكتابة. فإذا كانت اللغة العربية مهددة، فيعني أن العروبة نفسها مهددة. والتراث مهدد، والإنجازات مهددة، والتاريخ والجغرافيا والأواصر والوشائج. فموت لغة يعني موت أمة، وهي ليست مجرد «أداة» للتعبير فقط وإنما للاكتشاف، ومواكبة تطورات العصر، أي العنصر الثقافي المتداخل في كل أشكال الحياة، والسلوك، والتفكير، والإحساس.

من هنا نعود إلى ما دعت إليه اللجنة التحضيرية في قولها «حاجة إلى توفير التواصل مع قوى الاعتدال والديموقراطية في العالم العربي في سبيل قيام مشرق عربي جديد». عال! لكن هذه الدعوة يمكن أن تشمل قوى الاعتدال في العالم كله، وكل الديموقراطيات. وهذا ضروري باعتبار أن قوة التراث العربي ليس في محاورة ذاتية مع الذات، والذات عندما تحاور ذاتها تقع في الانحطاط. (هذا ما وجدنا في تنكر فئات للعروبة خصوصاً في زمن الميليشيات وصولاً إلى حزب الله، لتستنقع في انكفائيتها)، وإنما هو محاورة كل ضوء احيائي أو إبداعي عند الآخر، وهذا ما اكتشفناه في زمن الانحطاط العثماني عندما عُزل العرب عن تراثهم، وعن العالم، وهذا ما لحظناه عند بعض الاتجاهات الضيقة عندنا وفي العالم العربي (واليوم في بعض أوروبا)، وها هو يتجسد أكثر فأكثر في الحركات الأصولية، السلفية (مسيحية وإسلامية وقبلها أيديولوجية: ستالينية ونازية)، أو في النزعات التقسيمية المذهبية كما يدأب «حزب الله« على تحقيقه، وكذلك «داعش«، وقبلهما القاعدة، وفي التاريخ القديم «محاكم التفتيش» المسيحية في أوروبا. ونظن أن ما ورد في بيان الهيئة التأسيسية لمستقلي 14 آذار، هو إعلان رفض هذه الانكفائية التي تهدد الهويات والانتماءات المفتوحة.

[التواصل

وأعود هنا إلى ما دعت إليه الهيئة من حاجة إلى توفير التواصل مع قوى الاعتدال في العالم العربي. لكن لماذا استخدمت عبارة «قوى» فقط. وكأن المسألة تنحصر بين قوى وقوى، بين تجمعات وأحزاب وتجمعات وأحزاب، مهملة التواصل مع كبار المفكرين والفلاسفة، والمبدعين العرب المستقلين عن كل قوة. فهؤلاء أبعد من أن يختزلوا في حزب، أو تنظيم. إنهم الهامشيون، المستقلون بامتياز. إنهم ورثة التنوير العربي الأخيرين، بعدما قضى السياسيون على هذا التنوير بإشعاعاته، وإنجازاته. هذه الحاجة توسع الدعوة من الإطار السياسي التنظيمي، إلى الأطر الثقافية الحية. فمن صنع «النهضة» هم الكتاب، والمصلحون، والمفكرون، وليس العكس. فهل يجوز إهمال حملة شعلة التنوير، والاكتفاء بالتواصل مع «قوى» وبنى وتكتلات؛ وإذا كان لا بد من التواصل مع تراث النهضة العربية، فهؤلاء هم البوابات الصلبة المفتوحة والمبدعة. وبهم، ومعهم، نعيد اكتشاف ذخائر التاريخ وأحلام المستقبل.

وفي النهاية، نلفت إلى أن تراث 14 آذار اليوم هو امتداد لفكرة التنوير والحرية؛ بل وأن كل ما جاء في بيان الهيئة التحضيرية، موجود ربما بأعمق وبأصفى في تجليات التنوير.

على كل، فتشكيل هذا المجلس العتيد، خطوة مهمة في بلورة فكر الربيع العربي، والاحياء العربي، ومن لبنان بالذات أحد صنّاع النهضة الكبار، ومن الطبيعي تطوير معطياته وأدواته، ليس فقط لأسباب سياسية آنية، وإنما لما هو أعم وأكبر: استرجاع روح النهضة التي تجسدت في بدايات الربيع العربي، قبل أن ينقض عليه الظلاميون، والانكفائيون المذهبيون والارهابيون، وذوو المخططات، بضرب كل ما هو عربي، وكل ما هو تنويري.