تجزئة التشكيلات القضائية قلبت العدلية رأساً على عقب. هل ستطيح المشروع بأكمله إذا ما قررت وزيرة الدفاع اختيار قضاة جدد للمحكمة العسكرية أم أنّ مجلس القضاء يُصرّ على الأسماء نفسها؟ وماذا تكون الرسالة إذا أبقت وزيرة الدفاع على الأسماء نفسها؟
رغم اعتبار وزيرة العدل ماري كلود نجم مشروع التشكيلات القضائية غير دستوري لتطويبه مراكز قضائية لطوائف محددة وأخذها على مجلس القضاء الأعلى عدم تطبيق معايير موحدة في النيابات العامة ودوائر التحقيق واتهامه بمخالفة قانون القضاء العسكري واعتماد محاصصة طائفية وسياسية، إلا أنها عادت ووقّعت مرسوم التشكيلات القضائية. وضعت الوزيرة توقيعها على المشروع بعدما جزّأته إلى مرسومين. الأوّل الذي حمل توقيعها، وهو الذي يخص المحاكم العادية للقضاة العدليين، وتم توقيعه أيضاً من وزير المال غازي وزني ورئيس الحكومة حسان دياب، ولا يزال ينتظر توقيع رئيس الجمهورية العماد ميشال عون. أمّا الثاني، فيتعلّق بقضاة المحكمة العسكرية، وأحالته نجم إلى وزيرة الدفاع ليُعاد إلى مجلس القضاء الأعلى للنظر فيه من جرّاء «مخالفته القانون»! الأمر الذي فتح نقاشاً واسعاً في هذا الصدد.
هذه التجزئة، بحسب عدد من القضاة، تهدد بإطاحة مشروع التشكيلات بأكمله. ورغم أن مجلس القضاء الاعلى قد أشار في الأسباب الموجبة الى أن التجزئة غير ممكنة، انقسم أهل القضاء بشأن ما سمّوه «بدعة التجزئة»، على اعتبار أنّ هذه الخطوة قد تُطيح المشروع بأكمله، إذ إن مجرد تغيير قضاة في المحكمة العسكرية لا توافق عليهم وزيرة الدفاع زينة عكر، سيعني حكماً استبدال قضاة جرى تعيينهم في التشكيلات الجديدة. على سبيل المثال، إذا اختارت عكر قاضياً بديلاً من القاضية سمرندا نصّار التي شكّلها مجلس القضاء إلى المحكمة العسكرية، فذلك يُحتّم حكماً استدعاء قاض من تشكيلات القضاة العدليين، أي تغيير التشكيلات، وبالتالي، مجدداً، اختيار مركز جديد لنصّار بديلاً من ذلك الذي عُيِّنت فيه. وسينعكس ذلك سلباً على مشروع التشكيلات كاملاً، ما يهدد بإطاحته. هذا إذا لم يُصرّ مجلس القضاء الأعلى على الأسماء التي اختارها. أما في حال أبقت وزيرة الدفاع عكر على القضاة الذين اختارهم مجلس القضاء، فإنّ التشكيلات ستمُرّر، لكن مع رسالة إلى مجلس القضاء الأعلى مفادها وجوب احترام القانون.
وصف عدد من القضاة خطوة وزيرة العدل (تجزئة التشكيلات القضائية) بالسابقة التاريخية التي لم تشهدها العدلية. وتعليقاً على ما سمّاه «البدعة»، قال أحد أعضاء مجلس القضاء الأعلى لـ«الأخبار»: «ينص القانون على مراجعة وزير العمل في المحكمة التي تنظر في خلافات العمال وأرباب العمل (مجالس العمل التحكيمية)، فلماذا لا يكون هناك مرسوم ثالث أيضاً؟». وإذ اعتبر أحد أعضاء مجلس القضاء الأعلى ما جرى هرطقة قانونية، شرح قائلاً: ستسقط التشكيلات إذا قررت وزيرة الدفاع اختيار أسماء جديدة للمراكز القضائية في المحكمة العسكرية.
إلى اليوم، مرّ أكثر من شهر تقريباً على ردّ مجلس القضاء الأعلى بإجماع أعضائه مشروع التشكيلات للوزيرة، معلناً تمسّكه بالمشروع الذي أعدّه. فلماذا قررت وزيرة شطر المشروع إلى نصفين؟ أرادت نجم إيصال رسالة تفيد بأنّها غير راضية عن التشكيلات لكونها لم تراعِ المعايير المفترضة ولم تأخذ بملاحظاتها. وخيارها بالمضيّ بمرسومين هدفه تأكيد احترام القانون لجهة الالتزام بأن يُعيّن قضاة المحكمة العسكرية، بناءً على اقتراح وزير العدل ووزير الدفاع بعد موافقة مجلس القضاء الأعلى. تقول الوزيرة نجم لـ«الأخبار»: «لقد خاب ظنّي في مشروع التشكيلات القضائية الذي أعدّه مجلس القضاء الأعلى، والذي لا يتناسب مع الظرف الذي أعقب انتفاضة ١٧ تشرين، لكنني اخترت توقيع التشكيلات كي لا أتسبّب في عرقلة عمل القضاء وكي لا يُحكى عن تدخل سياسي في وقت صدرت فيه التشكيلات بإجماع أعضاء المجلس». أما ما يتردد عن تأخير بتّ مشروع التشكيلات، فنفته الوزيرة نفياً قاطعاً، كاشفة أنها أخذت في الاعتبار الظروف الاستثنائية التي تمر بها البلاد، ما شجّعها على توقيع التشكيلات، لتترك الكرة في ملعب وزيرة الدفاع.
وأشارت نجم إلى أنه جرى الاستناد إلى المادة 13 من قانون القضاء العسكري الصادر عام ١٩٦٨، والتي تُفيد بأنّ كلاً من وزير العدل ووزير الدفاع يقترحان القضاة العدليين لدى المحكمة العسكرية، بعد موافقة مجلس القضاء الأعلى. غير أن «أنصار مجلس القضاء الأعلى» استعانوا بالمادة الخامسة من قانون تنظيم القضاء العدلي الصادر عام ١٩٨٣ (جرى تعديلها في العام 2001) التي تُنيط بمجلس القضاء الأعلى تشكيل كل القضاة العدليين. واعتبروا ان هذه المادة تلغي ما قبلها. غير أنّ وزيرة العدل تتحدث عن «اقتراح مقدم منذ ستة أشهر من مجلس القضاء الأعلى لطلب تعديل المادة 13 من قانون القضاء العسكري»، متسائلة : «إذا كانت المادة ملغاة فعلاً، فلماذا يطلب مجلس القضاء تعديلها؟».
وفي هذا السياق، علمت «الأخبار» أنّ وزيرة الدفاع زينة عكر طلبت رأياً من الهيئة الاستشارية العليا في وزارة العدل في هذا الخصوص، فجاءت الإجابة بأن الهيئة الاستشارية العليا ترى أنه لم يعد منذ تعديل نص المادة 5 من قانون القضاء العدلي، لوزير الدفاع أي دور يتعلق بمناقلات القضاة العدليين وإلحاقاتهم وانتداباتهم في المحاكم العسكرية. غير أن وزيرة العدل سألت عن سبب وجوب توقيع وزير العدل إن لم يكن له رأيٌ فيها.
وبالعودة إلى التفسير التقني، واستناداً إلى الفقرة «ب» من المادة الخامسة من قانون القضاء العدلي التي تلحظ حصول الاختلاف في وجهات النظر بين وزير العدل ومجلس القضاء الأعلى. ورغم أنّ النصّ في شطره الأوّل يقول: «لا تصبح التشكيلات نافذة إلا بعد موافقة وزير العدل»، إلا أنّ استكمال النص يُرجّح الكفة لصالح مجلس القضاء الأعلى إذا كان أعضاؤه متّفقين، إذ تنصّ بقية الفقرة على أنّه عند حصول الاختلاف بين وزير العدل ومجلس القضاء الأعلى، تُعقد جلسة مشتركة بينهما للنظر في النقاط المختلف عليها. وإذا استمرّ الخلاف بين الطرفين، ينظر مجلس القضاء الأعلى مجدداً في الأمر لبتّه ويتّخذ قراره بأكثرية سبعة أعضاء حيث يكون قراره نهائياً ومُلزِماً. وفي هذا السياق، يقول رئيس مجلس القضاء الأعلى الأسبق القاضي غالب غانم لـ«الأخبار»: «عبارة (قراره نهائياً ومُلزماً) واضحة بأنّ الكلمة النهائية لمجلس القضاء الأعلى»، مشيراً إلى أنّ ذلك يعني أنّ على وزيرة العدل التي تسلّمت المشروع للمرة الثانية بإجماع أعضاء مجلس القضاء أن تُوقِّع المشروع وتُحيله. القاضي غانم الذي أنجز مشروعين للتشكيلات القضائية خلال تولّيه رئاسة مجلس القضاء الأعلى يقول إنّ «القضاء قال كلمته بإعادة مشروع التشكيلات للوزيرة بالإجماع بعد أخذ ملاحظاتها»، معتبراً أنّ أي عرقلة تتحملها السلطة السياسية لا القضائية. يستعيد غانم مشروعي التشكيلات القضائية عامي ٢٠٠٩ و ٢٠١٠، فيسرد قائلاً: «أنجزنا التشكيلات عام ٢٠٠٩ وأحلناها إلى وزير العدل آنذاك إبراهيم نجار الذي أعادها مع مجموعة ملاحظات». ويُضيف، «أخذنا ببضع ملاحظات من لائحة ملاحظاته وأعدناها إليه لتصدر خلال ٢٤ ساعة».
كذلك الأمر في تشكيلات عام ٢٠١٠. يقول رئيس مجلس القضاء الأعلى الأسبق: «أنهينا التشكيلات وأحلناها إلى الوزير الذي وقّعها وأحالها في اليوم نفسه لتصدر خلال ساعات». قاضٍ آخر يتحدث عن التشكيلات القضائية التي أُجريت في العام ٢٠١٧ فيقول: «أنهى مجلس القضاء الأعلى مشروع التشكيلات نهار الثلاثاء. تسلّمها درّاج على اعتبارها مرسوماً جوّالاً، وقام بجولة على وزير الدفاع ووزير المالية ورئيس الحكومة ورئيس الجمهورية، لتصدر مساء اليوم نفسه».
تجدر الإشارة إلى أن تأخير التشكيلات يتسبّب في تجميد المرفق القضائي، ولا سيما لدى القضاء الذين سُرِّبت أسماؤهم والمراكز التي سيُنقلون إليها، إذ تكشف مصادر قضائية لـ«الأخبار» أنّ عدداً من القضاة الذين ينتظرون توقيع التشكيلات لتسلّم مراكزهم الجديدة، جمّدوا العمل في مراكزهم الحالية أو أبطأوه بدرجة كبيرة، مترقبين بين يوم وآخر توقيع مشروع التشكيلات. وتشير المصادر إلى أنّ ذلك ينعكس سلباً على حُسن سير العدالة، ويؤدي إلى تأخير بتّ ملفات إخلاء السبيل أو إصدار بعض الأحكام، لرمي هذه الكرة على من سيخلفهم.