بين مضيق هرمز في الخليج، ومضيق باب المندب على مدخل البحر الأحمر، تبرز مؤشرات مؤكدة على وجود أزمة في مسار الملاحة التجارية العالمية. الأمر الذي استدعى قيام مؤسسة دولية بقيادة أميركية للحفاظ على حرية الملاحة البحرية وخاصة في البحر الأحمر. ذلك أنّ ايران وأذرعها في المنطقة تستبيح كافة الحدود والمواثيق الدولية بضربها السفن بمضيق باب المندب الأمر الذي يطرح من جديد مسألة الحدود الدولية في المنطقة.
من الملفت، حقاً، هذا «الانفجار» شبه المتزامن لإشكالية الحدود بين دول خليجية: من الاجتياح العراقي للكويت على «خلفية حدودية» وقبلها حرب الخليج الأولى (العراقية – الإيرانية) بأسبابها الحدودية (وغير الحدودية)، إلى النزاعات بين دول الخليج العربية حول الحدود: النزاع اليمني العماني، واليمني – السعودي، والبحريني – القطري، والقطري – السعودي، ثم النزاع بين دولة الإمارات العربية المتّحدة وإيران حول الجزر الثلاث أبو موسى وطنب الصغرى وطنب الكبرى… وصولاً إلى النزاع المصري – السوداني حول منطقة حلايب على البحر الأحمر إلى الصراعات الحالية حول مضايق الخليج والبحر الأحمرـ وخاصة مضيق هرمز وباب المندب.
فإلى النزاع الدائم العربي – الإسرائيلي والمفاوضات حول «حدود إسرائيل النهائية» في نطاق حلّ الدولتين! لكأنَّ حدود المشرق العربي تكاد تطرح للنقاش دفعة واحدة. فما هي باختصار الخلفيّات السياسية القريبة والجيو- سياسية البعيدة لإشكالية الحدود بين دول المشرق العربي عموماً، ودول الخليج بشكل خاص؟
أولاً: في الخلفيّات السياسيّة
نشير في هذا السياق إلى ستة أمور رئيسية تشكل منطلقاً لنزاعات الحدود الحاليّة، ويمكن إيجازها على الشكل التالي:
1 – إنها ارتكاسات (ارتجاجات) لحربيّ الخليج الأولى والثانية، فهما من القوة والتأثير والأهمية بحيث أنّ مفاعيلهما ستؤثر من دون شك في المنطقة المحيطة بالعمليات الحربيّة، وهو تأثير يأخذ شكل موجات متلاحقة تضرب شواطئ دول المنطقة وسلطاتها وأنظمتها وكياناتها. إنّه منطق الحروب في كل العصور: أن تكون لها ارتجاجات في المنطقة المحيطة بنقطة اندلاعها!
2 – إنها، في نظر البعض، وسيلة تعتمدها الدول الكبرى، ذات المصلحة للتأثير على نفسيّة دول المنطقة وقراراتها، مما يجعلها توقّع معها معاهدات أمنيّة لحمايتها من أطماع جيرانها.
3 – وهناك من يذهب، وكامتداد للهدف السابق، إلى اعتبارها وسيلة «التخويف» للأنظمة تسمح ببيع مزيد من الأسلحة المتطوّرة لهذه الدول مقابل الحصول على مليارات الدولارات التي يحتاجها الاقتصاد الغربي والروسي للخروج من وضع الكساد الاقتصادي الذي يعاني منه، وهذا يفسّر السباق الأميركي – البريطاني – الفرنسي – الروسي لبيع السلاح إلى دول المنطقة.
4 – أما دارسو الجغرافيا السياسيّة فيرون في إشكالية الحدود أمراً شبه طبيعي إذ إنّ تعاظم قوة دولة إقليمية ذات مطامح ومطامع سيكون له حتماً تأثير على جيران هذه الدولة. ونقطة الضغط الأساسية لهذا التأثير هي قشرة الدولة (أو الدول الصغيرة المجاورة)، أي حدودها (نموذجه العراق والكويت – سوريا ولبنان).
5 – وليس علينا أن ننسى السعي لإقامة نظام إقليميّ جديد. وطبيعي أن يكون المدخل إلى بناء هذا النظام تحريك وخلخلة الأسس التي قام عليها النظام القديم (السابق)، وهو نظام بدأ في المشرق العربي باتفاقية سايكس – بيكو (1916) لرسم حدود المنطقة وامتدّ إلى دول الخليج بعد الحرب العالمية الثانية على يد بريطانيا، ومن ثم على يد الولايات المتحدة باعتبارها الداعي والمصمّم والمهندس والمنفّذ للنظام الإقليمي الجديد… والذي بدأت ملامحه في « كردستان»!
6 – وأخيراً، لا آخراً، فإنّ «عجقة» المفاوضات الدائرة بين إسرائيل والأطراف العربيّة حول «الحل السلمي»، هي في المحصلة الأخيرة أسلوب معيّن (قد ينجح وقد لا ينجح) لإقناع إسرائيل بترسيم حدودها (النهائية)، وهو ترسيم ستكون له دون شك ارتكاسات على ترسيم حدود الدول العربية المحيطة بها والقريبة منها… وحتى البعيدة عنها، لأنّ المسألة الفلسطينية هي في جوهرها وستبقى مسألة عربية تهمّ وتخصّ كل الدول العربية من المشرق إلى المغرب. هذا يعني أن كل اتجاه دولي لإسقاط النظام العربي وتهميشه في هذه المسألة هو في الوقت عينه اتجاه لخلخلة الأنظمة العربية كلها.
ثانياً: في الخلفيات الجيو- سياسية
على الرغم من الأسباب السياسيّة ومدى أهميتها في إثارة إشكالية الحدود بين دول الخليج، فإنّ هذه الأسباب لم تكن لتأخذ مداها وخطورتها بسهولة وسرعة لو لم توجد خلفيات جيو- سياسية تجعلها ممكنة وسريعة العطوبة والاشتعال. هذا يعني طرح موضوع نوعيّة الحدود بين هذه الدول على بساط البحث لفهم ما يجري في الخليج وحوله… ولماذا؟
هناك ثلاثة أنواع من الحدود شبه الثابتة (أي غير المصطنعة) بين الدول:
1 – الحدود الطبيعية، وهي التي ترسم وفق معطيات جغرافية طبيعية ويشار في هذا المجال إلى عدة معايير طبيعية، منها:
– خط الذرى (القمم)، وهو الخط الذي يمتد فوق ذرى الجبال العالية الفاصلة بين بلدين (Ligne de crête )
– خط مساقط المياه حيث تفترق المياه باتجاهين مختلفين( وقد ينطبق هذا بعض الأحيان على خط الذرى (Ligne de partage de L’eau)
– الأنهار التي قد تكون داخلية، ولكنها في كثير من الحالات تشكّل خطوط فصل طبيعية بين الدول.
– بعض الموانع الطبيعية التي لا تسمح بسرعة وسهولة الانتقال من إقليم إلى آخر كالصحاري والمستنقعات الكبرى والغابات الكثيفة…
2 – الحدود الهندسية وهي التي تتخذ لها معياراً خطوط الطول والعرض الجغرافية (مثلاً حدود مصر مع ليبيا هي على خط الطول 25 شرقاً وحدودها مع السودان على خط العرض 22 شمالاً).
3 – الحدود الاجتماعية: وهي التي تجعل حدود الإقليم (الدولة) تتوافق مع حدود الجماعة التي تعيش فيه، وهذه الجماعة قد تكون: قبليّة، اتنولوجيّة، مذهبيّة، لغويّة، مزيجاً سلالياً…(نموذجها باكستان)
وبمقدار ما تتوافق الحدود الطبيعية مع الحدود الاجتماعية، تترسخ حدود الإقليم (الدولة) وتقوى، وبمقدار ما تفترقان تضعف حدود الدولة وتهتزّ وتصبح سريعة العطب ومفتوحة لتصفية الحسابات وخاصة على يد الدولة الأقوى المجاورة وربما بسعي من الدول الكبرى ذات المصلحة!
ليس بمقدورنا، كخلاصة لهذا البحث، أن ندخل في شرح وتفصيل ما حصل وما يحصل على حدود دول المنطقة لأنّ في ذلك إثارة للحساسيات التي تتحكم بالجميع في مثل هذه الظروف وهذه الموضوعات، حسبنا أننا وضعنا فيها الأسس والمعايير التي تسمح للفكر السياسي (وليس للعصبية السياسية) أن تدرس وتفهم وتحلّل وتخطّط على ضوء معطيات ثابتة في علم الجغراسية (الجغرافيا – السياسية) مع التشديد على أن ما هو مطلوب من دول الخليج أكثر مما هو مطلوب من غيرها من الدول، لأنَّها لا تواجه الآخرين فقط، بل تواجه الرمال المتحركة التي تقف فوقها أيضاً!