إن لم تطرأ مستجدات مانعة، تستأنف الأربعاء المقبل، برعاية أميركية، مفاوضات الحدود البحرية غير المباشرة مع العدو. فيما كان لافتاً تأكيد «مصادر رسمية رفيعة» إسرائيلية أن موقف تل أبيب كان «ثابتاً»، وأنها تعتبر أن المفاوضات لم تتوقف، لكن «على الجانب اللبناني أن يتوقف عن رفع مطالب جديدة».
ورغم التأكيد على مسار التفاوض، والامتناع عن أي تلميح لخيارات متطرفة من جانب العدو، لا يبدو أن هناك تغييراً في موقف إسرائيل و«الوسيط الأميركي» عن الجولات الماضية. فإسرائيل تُظهر نفسها، في تصريحات مسؤوليها وتسريبات «المصادر الرفيعة»، أنها الطرف المتلقي للتطرف اللبناني مع «إرادة طيبة» للوصول إلى تسوية هي في الواقع من يحددها، وأي رفض لبناني لها أو محاولة لتعديلها يعد رفضاً للتفاوض.
هذا التظهير الإسرائيلي، مع توجه نحو تسويات، لا يعني «إرادة طيبة». لكن هناك جملة عوامل تدفع إسرائيل إلى «المسكنة» مقابل لبنان. ففي الحالة اللبنانية، إسرائيل غير قادرة على فرض أمر واقع عبر الخيارات العسكرية، خشية تداعيات سلبية على مصالحها، لا بل هي تمتنع حتى عن التهديد بخيارات كهذه. لكنها، في المقابل، غير قادرة على «التنازل» للبنان حتى لا يعدّ ذلك خشية من حزب الله. وبين هذا وذاك، تسعى، ومعها الراعي الأميركي لها، إلى استغلال الأزمة المالية والاقتصادية لدفع لبنان إلى تليين مواقفه. وقد كان هذا رهان إسرائيل والولايات المتحدة في جولات المفاوضات الماضية، ولا يزال في الجولات المقبلة، مع رهان إضافي على أن تفاقم الأزمة قد يجبر لبنان على التنازل.
يعود «الوسيط الأميركي» عاموس هوكشتين بعد انقطاع أوحى بأن المفاوضات لن تُستأنف ما لم ينه لبنان «تعنته». فما الذي دفعه إلى تغيير موقفه؟ وهل يراهن الطرفان، الإسرائيلي والأميركي، على تراجع لبناني ما عن الحقوق في الحد البحري؟
يمكن التأكيد أن «الوسيط الأميركي» والمفاوض الإسرائيلي يستأنفان التفاوض من النقطة التي انتهت فيها. ما يعني أن الضغوط الجديدة هي نفسها الضغوط القديمة، مع رهان أكبر على الأزمة الاقتصادية والمالية. بهذا المعنى، فإن التفاوض المقبل هو عود إلى بدء.
ومن الضروري، هنا، أن يدرك الوفد اللبناني، ومن خلفه الإدارة السياسية، أن لديه نقاط قوة لرد الضغوط على طاولة التفاوض، بل ولقلب التموضعات، عبر اعتماده هو أسلوب الضغط على الأميركيين والإسرائيليين لانتزاع ما أمكن من حقوق لبنانية. فنقاط القوة هذه هي التي دفعت إسرائيل للعودة إلى مسار المفاوضات، وحالت دون لجوئها إلى فرض أمر واقع ميداني. بهذا المعنى، يملك لبنان أوراق ضغط ذات تأثير هائل يتراخى الجانب الرسمي اللبناني إزاءها.
في دراسة صدرت أخيراً عن «مركز أبحاث السياسة والاستراتيجية البحرية» التابع لجامعة حيفا، تحت عنوان «التقدير السنوي البحري 2021 – 2022»، تأكيد على العوامل التي تدفع إسرائيل إلى الانكفاء عن الخيارات العسكرية إزاء «النزاع البحري» مع لبنان. ففي الفصل الذي يبحث في التهديدات البحرية الإيرانية وقدرتها على فرض حصار بحري واسع على إسرائيل في حال اندلاع مواجهة معها، إشارات دالّة إلى قدرات ذاتية لدى لبنان تمنع إسرائيل من تفعيل قدراتها العسكرية ضده. ووفقاً للتقدير، تدرك إسرائيل جيداً امتلاك حزب الله القدرة والإرادة على شلّ حركتها البحرية عبر استهداف ممرات سفنها التجارية وغير التجارية. وينسحب ذلك أيضاً، وفق التقدير، على المنشآت النفطية على كامل الرقعة البحرية للمنطقة الاقتصادية الخالصة لفلسطين المحتلة.
والواضح، وفقاً للاستنتاجات والتوصيات، هو ضرورة ابتعاد إسرائيل عن المبادرة بالاعتداء أو «وضع اليد» في النطاق البحري في مواجهة النزاع الحدودي مع لبنان، خشية أن يدفع ذلك حزب الله إلى تفعيل قدراته ضد إسرائيل ومصالحها. والواضح، أيضاً، أن الموقف الإسرائيلي يبتعد حتى عن مجرد التلويح للبنان بالضغوط العسكرية، كي لا يستثير تهديدات من جانب حزب الله.
وإذا كانت القدرة والإرادة لدى حزب الله العامل الرئيس في ردع إسرائيل ودفعها إلى توسّل حلول تسووية، إلا أن معطى آخر يفرض نفسه بقوة على طاولة القرار في تل أبيب، ويجب أن يكون حاضراً لدى إدارة التفاوض في لبنان. ففي موقف يعد ارتقاء بدرجات في التعاطي مع ملف التفاوض، هدّد الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله باستهداف أي معتد يسرق الثروة البحرية اللبنانية، بعدما لوّحت إسرائيل بتلزيم شركة «هاليبرتون» الأميركية جزءاً من الحقول المتنازع عليها مع لبنان. وهذا ما منع إسرائيل والأميركيين من تفعيل ورقة ضغط التنقيب عبر الشركات الأميركية. عبر هذا التهديد، رفع حزب الله مجالات ردعه قياساً بما سبق، ما عزز مخاوف العدو من أي مقاربة متطرفة قد يقدم عليها. وإذا كان حزب الله معنياً بالدفاع عن الحدود السيادية التي تحددها الدولة اللبنانية، فقد ألزم نفسه بالدفاع ومنع أي جهة من سرقة الحقوق اللبنانية في المناطق المتنازع. وهو معطى يضاف إلى المعادلة الردعية ويعززها.
إلزام إسرائيل نفسها بالمنطق التفاوضي ليس إلا نتاج المعادلات الردعية للمقاومة
في توصيات التقدير الاستراتيجي البحري لإسرائيل تحذير، وإن من منطلقات نظرية، بضرورة أن تحرص تل أبيب على إنجاح التفاوض على الحدّ البحري مع لبنان ومنع تجميده من جديد، ربطاً بما يمكن أن يعمد إليه لبنان في مرحلة ما بعد فشل التفاوض. وهي من التوصيات التي تكشف الموقف الإسرائيلي الانكفائي من جهة، وتكشف في المقابل أوراق الضغط الموجودة لدى المفاوض اللبناني، ربما من دون إدراك منه. فوفقاً لهذه التوصيات، هناك احتمال وإن نظرياً، بأن يعمد لبنان في حال فشل المفاوضات، إلى وضع اليد على المنطقة المتنازع عليها عبر شركات التنقيب الإيرانية، من دون أن تكون إسرائيل قادرة على منع ذلك، لأن لدى حزب الله القدرة والإرادة على منع الجيش الإسرائيلي من تفعيل قدراته ضد الوجود الإيراني في هذه المناطق.
توفر هذه المعادلات أرضية للمسؤولين اللبنانيين ليستثمروا قوة المقاومة وحضورها في وعي أجهزة التقدير والقرار في إسرائيل، من أجل الاستحصال على حقوق لبنان والاستفادة القصوى منها. لكن هل يتعامل هؤلاء مع الجانب الأميركي، ومن خلفه الإسرائيلي، هذه المرة وفقا لهذه المعطيات؟
ليس أمراً عابراً أن تلزم إسرائيل نفسها بالمنطق التفاوضي والعمل على تسويات مع لبنان في ما يتعلق بالثروات الغازية والنفطية. بل هو نتاج كل المعادلات المشار إليها، وفي المقدمة إرادة المقاومة وقدرتها على حماية الحقوق اللبنانية.