لبنان وإسرائيل أمام اختبار صعب ومحفوف بالمخاطر، تتعاظم تهديداته مع مرور الوقت الذي لا يبدو أن الجانبين يملكان الكثير منه، ما يطرح جملة تساؤلات حول المآلات: تسوية أم مواجهة؟
لا يمكن تقدير اتجاهات الأمور في النزاع البحري مع العدو وغلبة فرضية على أخرى. إذ ترتبط الإجابات بعوامل عدة، أهمها القرار الإسرائيلي بالرد على إعلان حزب الله نياته العملانية – عبر عملية المسيّرات – في حال لم يستعد لبنان حقوقه البحرية. إذ يتضح من «العرض» اللبناني على العدو، عبر «الوسيط» الأميركي، انه إلى جانب الحق في الحد البحري، فإن المطلب الأساسي هو رفع الفيتو عن الشركات الدولية لتبدأ التنقيب عن الغاز في المياه اللبنانية، وفق التزاماتها.
هو سباق بين اتجاهين يقودان، بشكل أو آخر، إلى النتيجة نفسها أو ما يقرب منها: حلول وتسويات، وإن كانت التسوية التي تريدها إسرائيل، الآن، لا تصل إلى أدنى الحقوق اللبنانية. ويتعلق الخلاف بالفترة الوسيطة التي تفصل الجانبين عن كيفية الوصول إلى النتيجة النهائية: حلّ بعد تعقّل وإرجاع الحق اللبناني، أم حل بعد مواجهة، بهذا القدر أو ذاك؟
والحديث هنا لا يتعلق بإطلاق تهديدات، بل بتوصيف واقع واستعراض تقديرات مبنية على مقدّمات تبدو متينة ومتماسكة.
بالطبع، لن تتراجع إسرائيل عن محاولة «بلع» ما أمكن من الحق اللبناني، ومواصلة تمييع الوقت وتقطيعه، وهي ستلجأ إلى أي خيار بديل عن الخيارات العسكرية المتطرفة التي من شأنها جرّ ردود عسكرية مقابلة، وربما مواجهة، حتى وإن كان الطرفان لا يريدانها. لكن، ما هي هذه البدائل؟
إلى أن تصل «إسرائيل» إلى الحد الذي عليها أن تختار فيه بين المواجهة العسكرية أو الحل الديبلوماسي الفعلي، غير المميّع كما يحصل حتى الآن، فإن في حوزتها مروحة من الخيارات، مع رهانات على هذا المستوى أو ذاك، ومنها:
– إطلاق التهديدات التي تمتهنها في العادة لفرض ما تريده. وهذه من الصفات اللصيقة بالكيان القائم على اغتصاب حقوق الآخرين، وإن جاءت التهديدات هذه المرة مع عبارات ذات صدى كلامي مغاير، إلا أنها تهدف، كما التهديدات السابقة، إلى التأثير في وعي اللبنانيين عبر «النقر» على آلامهم وهمومهم التي تسبّبت بها هي وحلفاؤها. وهذه التهديدات هي لازمة أي خيار إسرائيلي تعتمده تل أبيب للمرحلة الآنية والوسيطة اللاحقة، من دون المواجهة العسكرية، قبل أن تصل إلى الاستحقاق الفعلي، وإن عملت على إبعاده (الاستحقاق) ما أمكنها ذلك.
– إعادة إحياء رواية أن حزب الله يعمل على تعطيل العملية التفاوضية وإمكانية تخفيف وطأة الأزمة الاقتصادية الحادة عبر منع الحكومة اللبنانية من التوصل إلى «اتفاق» مع الجانب الإسرائيلي. وهو اتفاق ما كان أحد ليفكر في احتمال التوصل إليه لولا وجود حزب الله وسلاح المقاومة. وهذه الرواية التي تهدف إلى قلب الحقائق والتحريض على المقاومة، بدأت تنتشر في الإعلام العبري قبل عملية المسيّرات، وتستمر بقوة بعدها، وتجد، كما هو تقدير العدو، صداها على ألسنة لبنانيين يتماهون تلقائياً مع أي روايات كهذه، طالما أنها تتهم المقاومة بسوء، بعيداً من أي مصلحة لبنانية.
خطوة المسيّرات لا تنهي خطوات ما بعدها مع استمرار التسويف الإسرائيلي
– من بين الخيارات، وهو ما بدأ بالفعل، تجنيد العواصم الغربية للوقوف إلى جانب «إسرائيل» ضد لبنان، وتشغيلها ساعي بريد لنقل تهديداتها إلى الجانب اللبناني، للمساعدة في التحريض ضد المقاومة. وتلتقي «إسرائيل» والغرب، وفي المقدمة أميركا، في ذلك مع بوتقة لبنانيين، من بينهم مسؤولون في المؤسسة السياسية في لبنان. علماً أن تل أبيب لا تحتاج إلى جهد كبير لتجد في العواصم الغربية سعاة بريد غب الطلب.
كان واضحاً كلام رئيس الحكومة الإسرائيلية يائير لابيد، من على سلم الطائرة التي أقلته إلى باريس للقاء الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، بأنه «إذا لم تكبح الحكومة اللبنانية حزب الله فستضطر إسرائيل إلى القيام بذلك». وهذا ليس مجرد تهديد عابر، وهو لا يعني بالضرورة – بل لا يعني على الأرجح – أن إسرائيل قررت «كبح» حزب الله ما لم يقم لبنان الرسمي بذلك. إذ من الواضح جداً أن المطلبين غير واقعيين. لكن كلام لابيد هو إشارة دالّة، وقوية جداً، على رهان أعيد إحياؤه في تل أبيب، نتيجة «رعونة» سياسيين في لبنان، أطلقوا تصريحات انتقدت عملية المسيّرات.
توجد مسؤولية تاريخية للموقف الرسمي والشعبي في لبنان. المواقف التي تصدر في هذا البلد، من شأنها أن تغذي تقديرات – وربما أيضاً أوهاماً – لدى العدو، وتجعله يراهن على تحصيل نتائج في حال تصلّب في مواقفه. وصورة الانقسام في لبنان تحفّز العدو على مزيد من التصلب، بغضّ النظر عن حقيقة الانقسام الفعلي ومداه ومستواه وتأثيره في قرارات حزب الله، بوصفه مقاومة.
الرهان الإسرائيلي يزيد، ربطاً بمواقف لبنانية لا يمكن وصفها بالبريئة، ما يدفع أكثر إلى مزيد من التحريض: حصار المقاومة والضغط عليها، سياسياً وشعبياً، مع تأثيرات سلبية في المفاوض اللبناني، وعرقلة تحصيل الحقوق.
في المقابل، وفي حال لمست إسرائيل التفاف اللبنانيين، وإن مع الخلاف في المسار التفاوضي، على الاستفادة من منابع القوة من دون الإضرار بها، ولو في الحد الأدنى، فإن ذلك يزيد من إيجابية النتائج ويقلّص سلبياتها.
ما زالت الأمور في بداياتها. وخطوة المسيّرات لا تنهي خطوات ما بعدها، خصوصاً مع التسويف الإسرائيلي ومحاولة «التشاطر» لكسب الوقت.
سيكون اللبنانيون على موعد، في الأيام المقبلة، مع تهديدات تقليدية وغير تقليدية، وربما منفلتة، في مواقف وتصريحات المسؤولين والكتبة في إسرائيل، وستتضمن استعراض عضلات عن قدرات «لا يمكن تخيّلها» قادرة على إلحاق الضرر المادي والبشري بلبنان. لكن، في المقابل، يمكن القول، مع اطمئنان معقول، أن لدى الجانب اللبناني أيضاً قدرات يمكن تخيّلها، وهي، وفقاً لحسابات وتقديرات مرجحة، قادرة على إلحاق الضرر المادي والبشري بإسرائيل. والمعادلة هنا ليست معادلة من يتسبب بضرر أكبر للآخر لينهي المنازلة بانتصار، وإلا لكنا نرتقب حرب لبنان «السابعة» وليس «الثالثة».