في قضية الترسيم البحري، رحلة طويلة من تجاوز المشكلة الحقيقية، ومن الأخطاء والشعبوية المفرطة، التي لن تؤدي الا الى المزيد من الفرص الضائعة، في الاوقات الصعبة. مسار الترسيم الذي شابه الكثير من الأخطاء بدءاً من الخطأ في رسم الحدود اللبنانية القبرصية، والنقطة 1، مروراً بالتفاوض حول خط هوف، وصولاً الى مهمة هوكشتاين، التي ربما تستأنف، في حال توفر الجواب اللبناني الموحد، على مشروع الترسيم الذي طرحه مكتوباً على لبنان دون أن يلقى أي رد الى الآن.
السؤال الاساسي اليوم ليس تجرؤ اسرائيل على بدء الاستخراج شمال الخط 29، بل عن الارتباك اللبناني والسبب الذي منع اعداد لبنان الرسمي للإجابة الرسمية على عرض هوكشتاين، فمن منع رئيس الجمهورية ميشال عون من استئناف المفاوضات، وكيف يمكن تفسير موقف «حزب الله» الذي فوض الدولة بالتفاوض ووقف خلفها، ثم عاد وانقلب على عون فجمدت المفاوضات بسحر ساحر ايراني، وتمّ لجم الاندفاعة المشتركة لعون ولرئيس مجلس النواب نبيه بري، للبدء بالترسيم، ولبت الموقف من العرض الأميركي.
واذا كان لكل من عون وبري اسبابه في الاندفاع الى حسم مسألة الترسيم، فإن نتائج الترسيم اذا تمحورت حول عرض هوكشتاين، فإنها ستكون حكماً لصالح لبنان، القادر على التفاوض بناء على المبادرة الاميركية، كي يحتفظ بالبلوكين 8 و9، وبما يعرف بحقل قانا، ولكي تبدأ عمليات الاستكشاف، وربما الاستخراج بعد سنوات قليلة، اذا توفرت النيات الجيدة، واذا ما وضعت الشعبوية القاتلة جانباً، والاهم اذا ما أعطيت مصلحة لبنان الاولوية، وأمسك قرار التفاوض السيادي بيده، ومنع تحويل ملف الترسيم الى مادة ابتزاز تعزز طاولة فيينا، او الى مادة متفجرة، لن تجلب على لبنان الا المزيد من الغرق في متاهات الصراع في المنطقة.
لا بد في هذا الاطار، من عرض بعض الوقائع التي قد تكون مؤلمة للرأي العام الموعود بالخط 29، والذي تمّت تعبئته للتمسك بهذا الخط، في حين أن كل مراحل المفاوضات التي أدارتها الدولة، تجاوزت هذا الخط.
1- من المسلم به أن الخط 29 كان دائماً دون ان يعلن عن ذلك خطاً للتفاوض، اي خطاً يتم التمسك به، لنيل أكبر قدر ممكن من المساحة البحرية جنوب الخط 23، وهذا ما ركز عليه لبنان في المفاوضات، وهذا ما اعلنه الرئيس عون مؤخراً ما أحدث عاصفة كبرى. وبغض النظر عن أرجحية اتهام عون بأنه يوظف مفاوضات الترسيم لرفع العقوبات عن صهره باسيل، فإن ما اعلنه هو مجرد إقرار سيئ التوقيت بحقيقة التفاوض.
2- إن الخط 29 يتجه جنوباً حتى يكاد يلامس المنطقة البحرية مقابل حيفا، وتبعاً لكل عمليات التفاوض، فإن اسرائيل يمكن ان توقف المفاوضات نهائياً اذا كان تمسك لبنان بهذا الخط نهائياً، والنتيجة لا ترسيم، بل أمر واقع تحدده معادلات القوة، وهدر للوقت الثمين لن يحسب في النهاية الا بحساب تضييع الفرص.
3- إن الخط المتعرج الذي رسمه هوكشتاين، من داخل المياه الإقليمية الى عمقها، يؤكد للبنان حقه في خزان قانا، ولإسرائيل حقها في خزان كاريش، وكان يفترض بالمفاوض اللبناني لو اتيح له استمرار التفاوض أن يحرص على ضمان امتلاك لبنان للبلوكين 8 و9، وان لا يخضع لأي ابتزاز اسرائيلي يتذرع بشراكة ولو بسيطة في اي من هذين البلوكين بداعي تسهيل تمرير انابيب من حيفا الى قبرص فأوروبا.
في الخلاصة، إن استمرار الفوضى اللبنانية في أدارة التفاوض والأوهام التي ترافقها الشعبوية، والأخطر فقدان القرار المستقل بالتفاوض، هذا القرار الممسوك من «حزب الله»، سيؤدي الى ضياع فرص الترسيم العادل، وسيضع ثروة لبنان النفطية في ثلاجة طويلة الأمد، فلا مصلحة الا بالترسيم العادل، والا تكون فرصة ذهبية قد ضاعت.