Site icon IMLebanon

قراءة قانونية وسياسية واقتصادية لاتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وفلسطين المحتلة (1/2)

 

مساء الخميس الثالث عشر من تشرين الأول ٢٠٢٢ أطلّ رئيس الجمهورية ميشال عون من شاشات التلفزيون ليزفّ الى اللبنانيين إنجاز الاتفاق على ترسيم الحدود بين لبنان وفلسطين المحتلة، بعد مفاوضات أدارتها الإدارة الأميركية عبر أكثر من وسيط ولتستقر في النهاية عند الوسيط هوكشتاين.

 

بدا الرئيس وهو يزفّ البشرى للبنانيين مغتبطاً بما تم انجازه معتبراً ان الاتفاق حفظ للبنان حقوقه، ولم ينسَ أن يكيل المديح لمن ساهم في إيصال هذا الملف الى نهايته «السعيدة». وكان لافتاً في رسالته تركيزه على دور وزارة الطاقة منذ أصبحت من حصة تياره السياسي في كل تشكيلة حكومية كان مشاركاً فيها، ومركزاً بشكل خاص على صهره النائب جبران باسيل والذي يشغل الآن موقع رئاسة «التيار الوطني الحر»، وفي السياق العام عرّج على من ساعد في إنجاز الاتفاق وخاصة الإدارة الأميركية ممثلة برئيسها ووسطائها.

هذا الترسيم الذي هو الآن مدار سجال سياسي حول ما إذا كان الاتفاق هو إنجاز عظيم ويندرج ضمن «الانتصارات»، أم أنه انطوى على تنازلات عن حق سيادي، كما ان الاتفاق هو موضوع جدل حول مركزه القانوني، وما إذا كان يقع تحت وصفه بالاتفاقية، أو المعاهدة أو التفاهم، ولكل واحدةٍ من هذه التوصيفات مقوماتها وسياقاتها الواجب سلوكها في الدوائر الوطنية والدولية ذات الصلة. كما لا يخفى ان آثاراً اقتصادية ستترتب على نفاذ هذا الترسيم بحكم ان المرتكز الأساسي لإبرامه يكمن في استخراج النفط والغاز في باطن الأرض المشمولة باتفاقية الترسيم.

وعليه فإننا سنقارب هذا الموضوع من خلال قراءة أبعاده القانونية والسياسية والاقتصادية:

أولاً، في المركز القانوني لترسيم الحدود البحرية

ما أن أعلن عن إنجاز ترسيم الحدود البحرية، حتى بدأ النقاش يدور حول المركز القانوني لهذا الحدث، هل هو معاهدة، أو اتفاقية أو تفاهم أو بروتوكول. فأي تعريف قانوني ينطبق على مسألة الترسيم؟

في تعريف المعاهدة، أنها مصطلح يطلق على الاتفاقيات ذات الطابع السياسي كمعاهدات السلام مثلاً، وهي تثمر نتائج قانونية يلتزم بها الأطراف الموقّعون عليها، اثنان أو أكثر، ويجب أن يكونوا من أشخاص القانون الدولي.

أما الاتفاقية، فهي مصطلح يتناول قضايا تتعلق بالشؤون الاجتماعية أو الاقتصادية والتجارية والعسكرية. وعليه فالاتفاقية تطلق على المعاهدة التي تعقدها الدول في غير الشؤون السياسية والتي تحتوي على قواعد قانونية وتنظم علاقات الدول الأطراف فيها، وقد تسري على غيرها كالمنظمات التي تعتبر من أشخاص القانون الدولي العام.

أما مذكرة التفاهم، فهي بحسب تعريف ويكبيديا، وثيقة رسمية تتضمن اتفاقاً بين طرفين أو أكثر، وهي تصف شروط الاتفاقية وعناصرها، وهي تُعد إيذاناً ببدء العمل بين أطراف الاتفاق أكثر منها التزاماً قانونياً، ولا يمكن بالتالي إحالة مذكرة التفاهم على المحكمة ذات الاختصاص، بعكس الاتفاقية التي يمكن أن تحال الى المحكمة لبت نزاع ناشئٍ حولها. كالإحالة الى محكمة العدل الدولية على سبيل المثال.

أما الميثاق والدستور والعهد، فهي مصطلحات تطلق على المعاهدات الجماعية المنشئة للمنظمات الدولية.

بالاستناد الى هذه التعاريف يبدو ان المعاهدة والاتفاقية تتشاركان في كثير من الأوصاف ، لكنهما يفترقان في طبيعة القضايا التي تشكل مضموناً لموضوعاتهما. فالمعاهدة تتناول القضايا ذات الطابع السياسي، أما الاتفاقية فتتناول القضايا ذات الطابع الاقتصادي والعسكري والاقتصادي والتجاري.

ومن خلال مقاربة مسألة الترسيم في ضوء التعريفات المشار إليها أعلاه، فإنها ليست ميثاقاً ولا دستوراً ولا عهداً دولياً، ولا تقع تحت توصيف مذكرة التفاهم.  وتبقى محصورة في تحديد مركزها القانوني بين تعريفي المعاهدة والاتفاقية.

وبحكم ان مسألة الترسيم، تناولت مسألة فنية مرتبطة بتحديد خطول فَصْلٍ جغرافي بين دولتين هما لبنان وفلسطين الواقعة تحت الاحتلال الصهيوني، وإن «إسرائيل» بما هي سلطة احتلال شكّلت الطرف الثاني في عملية التفاوض التي أديرت بشكل غير مباشر عبر الوسيط الأميركي. وكون التفاوض الذي تناول ترسيم الحدود البحرية، انطوى على تحديد حقوقٍ اقتصادية متعلقة باستخراج النفط والغاز من قاع البحر كل من المنطقة التي خرجت بحصته.

وبما أن عملية التفاوض لم تتطرق الى موضوع العلاقات السياسية بين لبنان والكيان الصهيوني، واقتصرت مندرجات الاتفاق على قضايا تتعلق بالجوانب الاقتصادية والتجارية والعسكرية والفنية، فإن التفاوض بمقدماته وسياقاته وما أفرزه من نتائج يكون والحالة هذه مندرجاً تحت وصف الاتفاقية.

إذاً إن المركز القانوني لعملية الترسيم هو اتفاقية موقّعة بين طرفين من أطراف القانون الدولي حتى ولم يكن هناك اعتراف سياسي ودبلوماسي بينهما. لأن «إسرائيل» ، بما هي سلطة قائمة بالاحتلال وان كان لبنان لا يعترف بها ويعتبرها دولة عدوة، إلا انها تحوز على اعتراف دولي بوجودها من خلال عضويتها في منظمة الأمم المتحدة، مع ملاحظة أن هذه الاتفاقية لم تكتسب حتى تاريخه صيغة النفاذ النهائي لانها لم تعبر قنوات الاقرار لدى السلطتين التنفيذية والتشريعية لدى أطرافها وحتى تصبح مبرمة وملزمة.

إن اعتبار عملية ترسيم الحدود البحرية، اتفاقية وليست معاهدة، ستطرح إشكالية احالتها الى المجلس النيابي لإقرارها. وهذه الاشكالية ناجمة عن نص المادة ٥٢ من الدستور التي نصت على أن رئيس الجمهورية يتولى المفاوضة في عقد المعاهدات الدولية وإبرامها بالاتفاق مع رئيس الحكومة. ولا تصبح مبرمة إلا بعد موافقة مجلس الوزراء. وتطلع الحكومة مجلس النواب عليها حينما تمكنها من ذلك مصلحة البلاد وسلامة الدولة. أما المعاهدات التي تنطوي على شروط تتعلق بمالية الدولة والمعاملات التجارية وسائر المعاهدات التي لا يجوز فسخها سنة فسنة، فلا يمكن إبرامها إلا بعد موافقة مجلس النواب.

ان نص المادة ٥٢ أوجب إحالة المعاهدة التي تنطوي على شروط تتعلق بمالية الدولة وتلك لا تفسخ سنة فسنة، الى مجلس النواب للموافقة قبل الابرام. ولم تشر المادة المذكورة الى الاتفاقية وهي التي تنطبق على واقع الحال بالنسبة لاتفاقية الترسيم. وهذه حجة قد يتمترس وراءها دعاة الذين لا يرون ما يوجب إحالة الاتفاقية الى المجلس للاطلاع والمناقشة واتخاذ موقف منها سلباً أو إيجاباً، لان نص المادة ٥٢ صريح وواضح وهو تناول إحالة المعاهدة وليس الاتفاقية. وأما الذين يدعون الى احالة الاتفاقية الى المجلس لوضع يده عليها، فحجتهم ان الاتفاقية تنطوي على شروط تتعلق بمالية الدولة كما أنها لا يجوز فسخها سنة فسنة، ولذا فإن المشترع الذي فرض إحالة المعاهدة الى المجلس النيابي عند توفر شرطي عدم جواز الفسخ سنة فسنة وبما يتعلق بمالية الدولة، لم يميّز بين المعاهدة والاتفاقية واللتين تتشابهان بكثير من المقومات، ولذلك ما ينطبق على المعاهدة إنما ينطبق على الاتفاقية.

وبما ان الاتفاقية تنطوي على شروط تتعلق بمالية الدولة وليست معرّضة للفسخ سنة فسنة، فهذا يوجب إحالتها الى المجلس النيابي. ونرى ان تجاوز هذه الإشكالية الناجمة عن حصر إشارة المادة ٥٢ بالمعاهدة دون غيرها، إنما يكون بالرجوع الى نص المادة ٨٩ من الدستور التي تنص على أنه لا يجوز منح أي التزام أو امتياز لاستغلال مورد من موارد ثروة البلاد الطبيعية أو مصلحة ذات منفعة عامة أو أي احتكار إلا بموجب قانون والى زمن محدود.

وطالما ان الاتفاقية تنطوي على منح امتياز لشركة توتال لاستغلال  ثروة النفط والغاز وهي من موارد البلاد الطبيعية، فإن الاتفاقية بما انطوت عليه من شروط توجب عرضها على المجلس النيابي سنداً للمادة ٨٩  من الدستور.

وعندما تحال الاتفاقية على المجلس سنداً لهذه المادة، فإنه بحكم ولايته التشريعية الشاملة يصبح من حقه وضع يده على الاتفاقية بكل مندرجاتها وما رتبته من موجبات وحقوق مالية فضلاً عن التدقيق فيما إذا كانت الاتفاقية احترمت نص المادة ٢ من الدستور والتي نصت على أنه لا يجوز التخلي عن أحد أقسام الأراضي اللبنانية أو التنازل عنه.

وبناء عليه، فإن الاتفاقية يجب إحالتها الى مجلس الوزراء، كي يحيلها بدوره الى المجلس النيابي وبعده يتم الابرام من قبل رئيس الجمهورية وفق الآليات الدستورية المفروضة تحت طائلة الابطال.

وتبقى مسألة لا بد من الإشارة عليها، وهي حصول حول تفسير الاتفاقية أو تنفيذها، فإن أميركا التي رعت وأدارت المفاوضات هي المرجع التحكيمي. والمحكم يكون حيادياً وعلى مسافة واحدة من طرفي النزاع. فهل أميركا هي طرف حيادي، وهي التي تعتبر أمن «إسرائيل»، من ركائز استراتيجيتها حيال المنطقة العربية؟

ثانياً، في البُعد السياسي لإنجاز اتفاقية ترسيم الحدود

من المعروف ان المقدمات التي سبقت وصول عملية ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وفلسطين المحتلة الى مآلاتها النهائية تعود لعقود خلت، وأولى خطوات الترسيم بين لبنان وفلسطين قبل احتلالها، كانت عام ١٩٢٣، يوم اعتمد رأس الناقورة نقطة الانطلاق لتحديد الاحداثيات التي تثبّت على أساسها الحدود. وقد تمت الإشارة الى رأس الناقورة في اتفاق «بوله – نيوكومب» الذي رسّم الحدود بين لبنان وفلسطين عام ١٩٢٣ ويوم كانت الدولتان تحت الانتداب البريطاني والفرنسي. وقد ثبّت هذا الخط في شباط ١٩٢٤. وفي المادة الخامسة من اتفاقية الهدنة فقرتها الأولى، تأكيد بأن خط الهدنة هو نفسه خط الحدود الدولية (٢٣ آذار ١٩٤٩). وقد أعيد الاعتبار لخط (بوله – نيوكومب) بعد اتفاقية الهدنة بتسعة أشهر تقريباً وتحديداً في شهر كانون الأول ١٩٤٩، وتم بالاستناد الى ذلك وضع نقاط ثانوية إضافة الى النقاط الأساسية التي كانت موضوعة، وقد وقّعت دولة الاحتلال الصهيوني على الوثيقة التي تعتبر رأس الناقورة هو نقطة الحدود على البحر المتوسط، كذلك وقّع لبنان بشخص المقدم اسكندر غانم الذي رأس يومذاك الوفد العسكري للمفاوضات حول تحديد احداثيات خط الحدود.

ان قضية ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وفلسطين المحتلة لم تثر كقضية نزاعية منذ الاحتلال الصهيوني لفلسطين العام ١٩٤٨، وحتى نهاية القرن العشرين. وأن عودة هذه القضية الى المشهد السياسي بدأت في العام ٢٠٠٣، يوم بدأ الحديث يكثر عن وجود غاز ونفط في شرق المتوسط، وخاصة في الحوض المائي الواقع بين سوريا ولبنان وفلسطين المحتلة وقبرص. وإذا كان الشيء بالشيء يذكر، فإن العام الذي بدأ البحث الجدي فيه باستثمار غاز ونفط شرق المتوسط، هو العام الذي تعرّض فيه العراق للغزو المتعدد الجنسية بقيادة أميركا وأدّى الى احتلاله واسقاط نظامه الوطني وتحلّل دولته.

ان أميركا التي قادت الحربين على العراق سواء تلك التي شُنّت عليه العام ١٩٩١، أو تلك التي شُنّت في العام ٢٠٠٣، سعت لتوظف نتائجهما في سياق تنفيذ مشروع إعادة تشكيل نظام اقليمي جديد تكون الدول الاقليمية غير العربية  من أركانه. وهذا ينطبق على الكيان الصهيوني وإيران وتركيا. ولهذا ما ان وضعت الحرب الأولى في بداية التسعينات أوزارها حتى كانت التحضيرات تجري على قدم وساق لعقد مؤتمر مدريد لحل ما يُسمّى بأزمة الشرق الأوسط وهي التسمية الدولية للصراع العربي – الصهيوني. وما ان وضعت الحرب الثانية (حرب احتلال العراق) أوزارها أيضاً حتى بدأ الاعداد العملي لتنفيذ المرحلة المتقدمة من الاسترتيجية الأميركية حيال الوطن العربي لفرض تسوية بالشروط الأميركية تحاكي بالدرجة الأولى ركيزتين أساسيتين من ركائز هذه الاستراتيجية وهما أمن النفط وأمن «إسرائيل».

من هنا، ليس مصادفة أن يفتح ملف الاستثمار النفطي في شرق المتوسط، بالموازاة الزمنية وفي ضوء المتغيّرات السياسية التي حصلت من جرّاء إسقاط الموقع العراقي بكل انعكاساته على الاقليم. وإذا كان ملف الاستثمار في نفط شرق المتوسط لم يشهد خطوات متسارعة، فلأسباب متعلقة بالتعقيدات الناتجة عن تعدد أطرافه الاقليميين في ظل غياب ترسيم للحدود البحرية بين دول الحوض النفطي الواقع بين سوريا ولبنان وقبرص وفلسطين المحتلة من جهة، ولإدخال عملية الاستثمار واستخراج النفط في إطار الصراع والتجاذبات الدولية من جهة ثانية، إضافة الى عاملين أساسيين أدّيا الى تراجع الاهتمام الاقليمي والدولي بهذا الملف، أولهما متعلق بالصعوبات التي بدأت تواجهها أميركا في العراق من جراء تصاعد المقاومة الوطنية بوجهها، وثانيهما العدوان الذي شنّه الكيان الصهيوني ضد لبنان العام ٢٠٠٦، وما أفرزه من نتائج.