في العام 1996، جرت مفاوضات برعاية فرنسية وأميركية لتنظيم التفاهم التاريخي الذي نجحت المقاومة من خلاله في تحييد المدنيين من الحرب المفتوحة مع العدو. طبعاً لم يحم التفاهم كل المدنيين، كل الوقت. لكنه منح شرعية معلنة من قوى الاحتلال والاستعمار لرجال المقاومة باستهداف منشآت أو تجمعات يمكن وصفها بـ«المدنية» في كيان الاحتلال، في حال تعرّض العدو لمدنيين في لبنان، سواء حصل ذلك عمداً أو غير قصد!
هذا التفاهم، احتاج يومها إلى ذراع ديبلوماسية. لكن المشكلة، حينها، أن مسؤولين لبنانيين بارزين كانوا يسرّون للمفاوضين الغربيين بأنهم لا يعارضون تحويل التفاهم إلى اتفاقية لوقف العمليات العسكرية. لم يقتصر الأمر على اللبنانيين فقط، بل انسحب على مسؤولين سوريين كانوا قد باتوا أقرب إلى القناعة التي عبّر عنها رفيق الحريري في حينه، بأنه آن أوان وقف الحرب. وخلال الشهور التي تلت التفاهم في نيسان من ذلك العام، ظل في لبنان وسوريا من يفسر بنود التفاهم على أنها مانعة للمقاومة من تنفيذ العمليات.
يومها تولى حافظ الأسد تعطيل هذه المحاولة. أدار مفاوضات شاقة مع المسؤولين الأميركيين بمعاونة وزير خارجيته فاروق الشرع. طوال أيام المفاوضات، كان الأسد الأب يسأل عن أحوال المقاومة، وعندما اقتنع بأنها قادرة على الصمود والاستمرار في المواجهة، أقفل باب المناورات مع الأميركيين والفرنسيين وتالياً مع الإسرائيليين، وفرض وجهة قادت إلى التفاهم، الذي كان سلاح المقاومة فقط هو من يضمن حسن تنفيذه.
اليوم، يجري إقرار تفاهم مشابه، يقوم على فكرة تحييد المنشآت الاستراتيجية النفطية عن الصراع المستمر بين المقاومة وبين العدو، ولا يلزم لبنان بأي تطبيع أو اتفاقات أو ملاحق جانبية. وهو تفاهم محكوم بهذه القاعدة مهما حاول البعض، من لبنانيين وإسرائيليين وخليجيين وأوروبيين وأميركيين، القول بأنه اتفاق رسمي بين بلدين ويحسم بصورة دائمة الحدود البحرية بين البلدين. ما يعني، أن التفاهم الذي سيعلن عن إنجازه اليوم لا يعدو كونه تفاهماً فرضته الوقائع الخاصة بلبنان والعدو على حد سواء.
لكن هذا التفاهم ما كان ليحصل لولا أن القرار الذي اتخذه الرئيس ميشال عون وفريقه المفاوض (جبران باسيل والياس بو صعب وآخرون) بالتوصل إليه، لم يكن يستند، فعلياً لا لفظياً ولا مواربة، لقوة المقاومة. هذه المرة، لم يكن ميشال عون يحتاج إلى شرح أو تأكيد من قيادة المقاومة بأنها قادرة، ليس على منع العدو من استخراج الغاز في حال لم تلب حقوق لبنان، بل كان يعرف تمام المعرفة أن المقاومة قادرة وجاهزة لتدمير كل المنشآت الإسرائيلية في البحر والبر على حد سواء إن تطلب الأمر.
في هذه المعركة المعقدة، نجح ميشال عون في تحويل الديبلوماسية إلى أداة تقف في المربع الذي ناسب المقاومة في خطة حماية الحقوق. وهذه المرة، كانت الديبلوماسية تسير على خطى المقاومة في المواجهة وتثبيت نقاط الصراع مع العدو. وكل الجهد الديبلوماسي الذي بذل خلال فترة التفاوض، ما كان ليثمر نتائج جيدة، لولا أن المفاوضين أنفسهم كانوا إلى جانب قناعتهم بقوة المقاومة، يلفتون انتباه الوسيط الأميركي عند كل عقدة، إلى أن المقاومة هي من سيتولى الأمر في حال توقف المفاوضات.
ليس انتقاصاً من دور أحد، بل هو تأكيد على الموقع الخاص الذي مثله الرئيس عون وفريقه السياسي في هذه التجربة الكبيرة. وهو موقع يقوم على قاعدة الفهم والاقتناع بأن المقاومة ليست ورقة للحفظ في أرشيف الخطابات المتزلفة، بل هي أداة تحرك وتحفظ وتحمي وتحصن المفاوض اللبناني وتتعب وتربك وتنهك المفاوض الإسرائيلي، كما أنها أداة تلزم الوسيط الأميركي تعلم فنون الوساطة البعيدة عن التعالي والصلافة. وسيكون هناك يوم، يضطر فيه عاموس هوكشتين إلى قول ما يقوله الإسرائيليون عن أنفسهم بأنهم أُرغموا على التنازل خوفاً من المقاومة، وليس من أي شيء آخر!