مرة جديدة يقدّم «العهد القوي» المصلحة الشخصية والعائلية، على المصلحة الوطنية، واذ شكل موقف رئيس الجمهورية الجديد في ملف ترسيم الحدود البحرية، صدمة للبعض، إلا أن غالبية اللبنانيين تعلم ان هناك قطبة مخفية حيكت ذات ليل بين جبران باسيل والوسيط الاميركي اموس هوكشتاين.
يقول رئيس الجمهورية : النقطة 29 كانت خط تفاوض وليست خط حدودنا البحرية. البعض طرح هذا الخط من دون حجج برهنته. ويضيف: هناك اطار تفاوض وضع سابقاً تولاه الرئيس نبيه برّي، ونعمل من ضمنه. خطنا النقطة 23، وهي حدودنا البحرية.
هنا لا بد من طرح بعض الاسئلة:
اولا: لماذا تم تكليف الجيش بوضع دراسة علمية للحدود البحرية، ومن ثم الانقلاب عليها عندما خلصت الى ان الخط 29 هو حدودنا الفعلية. وهل كان الهدف توريط و«حرق» العماد جوزيف عون، كمرشح طبيعي لانتخابات الرئاسة، مع الاميركيين واظهاره بموقع المتشدد والمعرقل لاتفاق الترسيم ؟ علما ان قائد الجيش العماد جوزيف عون رجل مؤسسات و«مش فاتح عحسابو»، وقد قال بصراحة للوسيط الاميركي ان الجيش ينفذ قرارات السلطة السياسية.
ثانيا : لماذا طلب عون من وزارة الخارجية ارسال رسالة إلى الأمم المتحدة ومجلس الأمن قبل اسابيع قليلة، تمثّل إعلاناً رسمياً صريحاً بنقل التفاوض من الخط 23 إلى الخط 29، مع الاحتفاظ بحقّ تعديل المرسوم 6433، ثم يقول ان الخط 29 يفتقر الى الحجج والبراهين، وان تعديل المرسوم 6433 لم يعد وارداً ؟
ثالثا : لماذا نسف رئيس الجمهورية كل اوامره للوفد العسكري المفاوض بضرورة التمسّك ببدء المفاوضات من الخط 29، الذي ينطلق من نقطة رأس الناقورة برّاً والممتدّ بحراً تبعاً لتقنية خط الوسط من دون احتساب أيّ تأثير لجزيرة تيخيليت. وقد اكد رئيس الوفد العميد بسام ياسين أن هذه التوجيهات دُوّنت في بيان صادر عن رئاسة الجمهورية في 13 تشرين الأول 2021، «بعد شرح مفصّل لعون عن قانونية هذا الخط».
رابعا : لماذا تنازل عون عن الخط 29 الذي يحصّل للبنان 1430 كلم مربّعاً إضافية من حقوقه في المياه الاقليمية، فيما الخط 23 يحصر التفاوض بمساحة 860 كلم مربّعاً.واذا استمعنا عذر وزير الخارجية بالامس اذ قال: «هل نريد أن نخوض معارك شعبويّة أم بدنا ناكُل العنب؟»، فاننا نسأل ما هو العنب الذي سنأكله؟ ومن سيأكله تحديدا؟
القصة باتت معروفة، فعندما احيل العميد ياسين الى التقاعد رفض رئيس الجمهورية تعيين خلف له، وانتقل ملف التفاوض من الناقورة الى بعبدا، وهذا يخالف الاتفاق الاطار الذي وضعه الرئيس نبيه بري والذي يتلطى عون خلفه، فقد نص الاتفاق صراحة على «عقد اجتماعات بطريقة مستمرة في مقر الأمم المتحدة في الناقورة تحت راية الأمم المتحدة».
لقد نجح الرئيس بري بنسف خط هوف، الذي يعطي لبنان 55 في المئة من مساحة 860 كلم مربعا، ولكنه لم يسلم بالخط 23، بل اوكل، بصريح العبارة، في مؤتمره الصحافي الشهير، بتاريخ 1- 10-2020، مهمة تحديد الحدود الى ذوي الاختصاص، اي الجيش. ولم يكن بذهن رئيس المجلس النيابي ان تدخل عملية الترسيم في البازار السياسي.
وبالحديث عن الرئيس بري فاننا نذكر دوما بقوله لعون: لا اريد رئيسين في بعبدا. وهنا بيت القصيد، فقد انتقل التفاوض فعليا الى ميرنا الشالوحي، مع جبران باسيل تحديدا، وليس مع رئيس الجمهورية او الوزير السابق الياس بو صعب، كما حاولوا ايهامنا، وقد قال الاخير: أبلغ الرئيس عون اعتماد لبنان الخط 23 للوسيط الأميركي خلال زيارته الأخيرة، وأبدى هوكشتاين ارتياحه.
الصفقة واضحة المعالم، يفاوض باسيل الاميركيين متوهما ان بامكانه رفع العقوبات المفروضة عليه اولا، ومن ثم تلميع صورته كمعارض لحزب الله، من خلال بعض التصريحات الاعلامية الدونكيشوتية، ومرشح مقبول لرئاسة الجمهورية، بعدما ظهر «تطرف» قائد الجيش، وبعد ان ازاح، بزيارة دمشق، المرشح الآخر سليمان فرنجية، اما سمير جعجع، فحظوظه معدومة طالما استمر تحكم سلاح حزب الله بالمعادلات اللبنانية.
حسابات ساذجة ومبسطة في مشهد داخلي واقليمي ودولي معقد. ولكن المسألة أخطر من اوهام باسيل الرئاسية، فقد خرج الاعلام الاسرائيلي ليكشف ان امين عام حزب الله السيد حسن نصرالله وافق على صفقة الخط 23 الذي يحرم لبنان من حقوقه الطبيعية، وقد تأكد الامر بأمرين، الاول، اعلان بوحبيب نفسه، انه تواصل مع الحزب قبل زيارة هوكشتاين (التي تبلغ خلالها الموقف العوني الجديد)، والثاني، اعلان كتلة حزب الله بالامس انها توافق على ما يوافق عليه الحكم اللبناني في موضوع الترسيم، مكتفية بالتحذير من محاولات التطبيع.
الصفقة المقبلة دولية اذا، مع الحديث عن اقتراب مفاوضات فيينا من نهايتها، بإحياء الاتفاق النووي، وهي ليست صفقة محلية، على مقاس جبران، بالتأكيد.
والسؤال، هل تقتصر تداعياتها على انتخابات الرئاسة فقط، ام انها ستنسف النظام اللبناني من اساسه، والذهاب الى مؤتمر تأسيسي سيغير وجه لبنان العربي السيد الحر المستقل؟