اياً كانت النتائج التي ستنتهي اليها مهمة الرئيس المكلّف تشكيل الحكومة مصطفى اديب في نهاية المهلة المحدّدة لولادتها، فإنّ الاولوية بعدها ستكون لترسيم الحدود البحرية الجنوبية. وفي الوقت الذي قيل انّ الملف أُعيد الى سفير واشنطن في انقرة دايفيد ساترفيلد، بعدما ربط مصير الحدود البحرية اللبنانية بباقي المناطق المُختلف عليها في شرق المتوسط. فما الذي يقود الى هذه المعادلة المعقّدة؟
الى الرعاية المحلية والاقليمية والدولية لتسهيل مهمة الرئيس المكلّف تشكيل الحكومة على وقع المبادرة الفرنسية والفرصة الدولية والإقليمية التي أُعطيت لها، تبدو المراجع الديبلوماسية منشغلة بما هو آتٍ من استحقاقات اقليمية بالغة الدقة، في ضوء ما هو متوقّع من متغيّرات، ولا سيما منها تلك المتصلة بتداعيات الخلاف المستجد حول الحدود البحرية بين تركيا من جهة وجارتيها اليونان وقبرص من جهة اخرى، وما استجرّه الخلاف من حشد اوروبي وغربي، نتيجة تضامن دول الاتحاد مع اليونان في مواجهتها مع تركيا.
ومن هذه المنطلقات بالذات، تتعدّد السيناريوهات المنتظرة بالنسبة الى ترسيم الحدود للمنطقة الواقعة في شرق البحر المتوسط على اكثر من مستوى. وهي توحي في البعض منها بمزيد من التأزّم الذي يمكن ان يلقي بتردداته على مصير المفاوضات حول الحدود البحرية للمنطقة الخالصة اللبنانية بين لبنان واسرائيل، بسبب تلازمها، وجملة التفاهمات التي أُعيد النظر فيها، كعملية ترسيم الحدود القبرصية ـ المصرية، التي اعادت خلط الاوراق مجدداً، قبل ان يُفتح الملف مجدداً بين تركيا وكل من قبرص اليونانية واليونان، والتي قادت الى التحرّكات العسكرية التي لجأت اليها هذه الدول، وما واكبها من حرب ديبلوماسية شرسة في كل من الامم المتحدة والاتحاد الأوروبي، فالدولتان من اعضاء هاتين الهيئتين الإقليمية والاممية.
وعليه، لم تخف مراجع عسكرية وديبلوماسية مخاوفها من احتمال وقوع عملية عسكرية في اي «لحظة تخلي»، نتيجة لارتكاب اي منهم اي خطأ. وما زاد من هذه المخاوف، ان يصل اي منهم الى لحظة يستشعر فيها الحاجة الى مثل هذه الحرب، نتيجة حاجة الطرفين الى اي استحقاق خارجي ينقذهما من المدى الذي بلغته الأزمات الداخلية، من دون اغفال خطورتها، ليس على أمن البلدين فحسب، انما على دول حوض البحر المتوسط بكاملها وبلا استثناء. فهو يعج بالبوارج والسفن الحربية المتعددة الجنسية، بما فيها الروسية تجاه السواحل السورية، والأميركية كما البريطانية والفرنسية، عدا عن تلك المتنازعة على الثروات النفطية والسباق الى استثمارها، بعدما خطت انقرة خطوات متقدّمة متجاوزة حدودها البحرية الاقليمية.
وعلى رغم مما حققته الضغوط الدولية من بشائر انفراج، ترجمتها انقرة الأحد بسحب سفينة التنقيب «أوروك ريس» من المناطق الواقعة في شمال شرق البحر المتوسط المتنازع عليها مع اليونان وقبرص اليونانية، فإنّ الخطوة لم تخرج عن اطار تبريد الأجواء السلبية التي تسبّبت بها المناورات الجارية في البقع البحرية المتقاربة والمتقابلة للحدود البحرية الاقليمية المتنازع عليها. من دون ان ينسى المراقبون ما رُصد أخيراً من تعزيز للقدرات العسكرية اليونانية الجوية والبحرية، بتزويد قواها عدداً من الطائرات والبوارج، والتي توحي بإبقاء فتيل الإشتعال قائماً في اي لحظة، بمعزل عن حجمها والقدرات المسخّرة لها.
وتزامناً مع هذه القراءة العسكرية المحتملة التي تشغل بال المراقبين والخبراء العسكريين، ثمة قراءة ديبلوماسية واقتصادية أخرى وضعت عملية الترسيم التي تعني اللبنانيين في إطار آخر، بات مرتبطاً بكل ما يجري في شرق المتوسط من الحدود البحرية القبرصية – المصرية الى شمال شرق المتوسط حيث الحدود التركية ـ اليونانية، بما لها من تداخل مع مصالح دولها، وهو ما يثير المخاوف على مصير المفاوضات بين لبنان واسرائيل، وسط مزيد من المؤشرات السلبية المتناقضة.
والى هذه المخاوف، ثمة من يخشى على مصير المفاوضات المعلّقة على سلسلة من الأفكار المتبادلة، التي قيل انّها لم تصبح نهائية بعد. وهي تتصل بما يمكن ان تعكسه موجة التطبيع الجديدة بين اسرائيل ودول الخليج، التي ستشهد واشنطن اليوم حفلة توقيع اتفاقيتين جديدتين مع كل من دولة الامارات العربية المتحدة ومملكة البحرين. وهو ما يرفع من حدّة المواجهة الإيرانية ـ الأميركية على ساحة المنطقة، وهي مبعث للقلق بالنسبة الى اللبنانيين.
وما زاد في الطين بلّة، العقوبات الأميركية المُحدثة على حليفين لـ»حزب الله» في لبنان، لوقوعها في منزلة قريبة من هذه المواجهة الحادّة على مسافة ايام قليلة من انتظار واشنطن الموقف اللبناني النهائي من ملف ترسيم الحدود البحرية مع اسرائيل، فتشابكت المعطيات وزادت من التعقيدات المحتملة التي ستعوق اي مفاوضات ايجابية.
لا تكتفي المراجع الديبلوماسية عند تعبيرها عن القلق مما هو آتٍ. فهي تخشى من ردّات الفعل الاسرائيلية على المقترحات اللبنانية، بعدما تضاربت المواقف منها. فالرئيس نبيه بري، اعتبر في مطلع آب الماضي، أنّ المحادثات مع الأميركيين في ملف الترسيم «أصبحت في خواتيمها»، وهو ما اكّده مسؤول أميركي رفيع في الثامن من ايلول الجاري، عندما قال ما مضمونه: «إنّ المحادثات التي تجري بوساطة واشنطن … تحرز تقدّماً تدريجياً»، وهو امر لم يثبت بعد. ومردّ ذلك، الى ما نُقل عن مساعد وزير الخارجية الاميركية لشؤون الشرق الأدنى ديفيد شينكر، وتأكيده لمن التقاهم «انّ الطرح اللبناني ما زال مرفوضاً في اسرائيل، ولم نصل الى اي نقطة مشتركة بعد». وهو ما يُسقط احتمال «توقيع اتفاق إطار في غضون أسابيع، يتيح للبنان وإسرائيل البدء في مفاوضات لحلّ هذا النزاع».
واستناداً الى ما تقدّم، ترتفع موجات القلق بعدما تسرّبت معلومات ديبلوماسية تفيد انّ ملف ترسيم الحدود اللبنانية – الإسرائيلية سُحب من يد شينكر مؤقتاً، كما سُحب من السفير ديفيد هيل قبلاً. وهو ما كشف عنه مرجع ديبلوماسي ارفع مستوى من الرجلين، حيث قال، انّ الملف أُعيد الى كنف احد المؤسسين الأوائل له، وهو السفير الأميركي في انقرة منذ سنوات ديفيد ساترفيلد، الذي عليه أن يوزع الأدوار من انقرة، بما يضمن تفاهمات كبيرة باتت تعني شرق المتوسط بكامله من الخلاف التركي- اليوناني ـ القبرصي الى الخلاف اللبناني ـ الإسرائيلي، وهو ما يؤدي حتماً الى ربط كل القضايا المتصلة به، من مصير سلاح «حزب الله» الى مصير الثروة النفطية في لبنان وما بينهما الخلاف اليوناني – التركي، لتكون ملفاً واحداً يحتوي ما يكفي من التناقضات والمطبات، وهو ما ستثبته الاسابيع المقبلة.