IMLebanon

الترسيم البحري: تَراجُع الرئيس وثبات القائد وفريقه

 

وقائع الإتصالات وجلسات التفاوض (٣)

 

بتاريخ 12/2/2022 أعلن الرئيس ميشال عون عن تراجعه عن المطالبة بالخط 29 وقبوله التفاوض على أساس أنّ الخط 23 هو سقف حدود لبنان البحرية الجنوبية. وبالتالي القبول بما كان يطالب به الأميركي ومن خلفه الإسرائيلي خلال جلسات التفاوض في الناقورة، وهو الأمر الذي كان يرفضه الوفد العسكري/ التقني اللبناني المفاوض. إضافة الى قبول الرئيس ومعه أركان الدولة بمطلب أميركي-إسرائيلي كان حاضراً دائماً في تلك الجلسات، وهو انطلاق الترسيم من نقطة بحرية وليس من نقطة رأس الناقورة البرية المحاذية للساحل اللبناني، وذلك بهدف الحفاظ على المنطقة العازلة بين الحدود المفترضة وخط «الطفافات» الذي ابتدعه العدو بعد انسحابه في العام 2000. وسيتبين في سياق سرد مضمون محضر الجلسة الخامسة الإصرار الإسرائيلي مدعوماً بالموقف الأميركي على هاتين النقطتين اللتين نجح في تثبيتهما وإجبار لبنان على القبول بهما في الصيغة الأميركية المقترحة.

 

بين 4/5/2021 تاريخ عقد الجلسة الخامسة للمفاوضات والتي كان الرئيس عون قد طلب من الوفد المفاوض قبيل حصولها التمسك بالتفاوض على أساس الخط 29، وبين 12/2/2022 تاريخ إعلان الرئيس عون نفسه في مقابلة صحفية مع الأستاذ نقولا ناصيف عن أنّ «خطنا التفاوضي هو الخط 23»، حوالى 10 أشهر من التآمر على حقوق لبنان السيادية والمثبتة في القانون الدولي. وهي أشهر حفلت بلقاءات واتصالات تنقّلت بين لبنان وعواصم غربية لكسب ود الوسيط الأميركي الجديد آموس هوكشتين والتنازل له وللعدو عن ثروات سيادية هي حق للأجيال اللبنانية القادمة، وليست ملكاً خاصاً لهذه الطبقة السياسية الفاسدة والفاشلة التي قادت لبنان الى أخطر انهيار اقتصادي ومالي واجتماعي قد يشهده بلد ما.

 

الجلسة الخامسة

 

وبالعودة الى محضر الجلسة الخامسة، كان واضحاً منذ اللحظة الأولى اتجاه الوسيط الأميركي لتطيير المفاوضات حيث تغيّب عضو الوفد الأميركي الخبير الجغرافي إريك دورنبوس لأسباب مجهولة وللمرة الأولى منذ بدء جلسات التفاوض. غير أنّ الوفد اللبناني استأنف الجلسة بعرض مفصّل ردّ فيه على العرض السابق لوفد العدو مشدداً بالأدلة والبراهين على متانة الخط 29. ردّ وفد العدو بعرض مضاد تضمن مغالطات قانونية وتقنية وكان ملفتاً إصراره على وجوب انطلاق الخط الحدودي من البحر وليس من الساحل، وأيضاً على حصر التفاوض بمنطقة الـ860 كلم². وبعد أخذ ورد بين الوفدين طلب الوسيط الأميركي السفير جون دي روشيه الاجتماع منفرداً برئيس وفد العدو ثم برئيس الوفد اللبناني العميد بسام ياسين، بعد ذلك عاد الى خيمة التفاوض وأعلن بنبرة عالية وفجّة إنّه «على الطرفين العودة الى طاولة التفاوض في الغد وحصر النقاش ضمن المنطقة الواقعة بين الخطوط المودعة لدى الأمم المتحدة، فإذا قبل لبنان بذلك كان به وإلّا فلا داعي للعودة إلى الناقورة ولا جدوى من متابعة التفاوض». كما قال: «إن الولايات المتحدة الأميركية ليست بوارد اقتراح حلول خارج هذه الشروط». رفض الوفد اللبناني الانصياع لإملاءات الوسيط الأميركي التي حملت في طياتها تبنّياً لكامل الشروط الإسرائيلية، كذلك عبّر عن عدم استعداده لحصر التفاوض بين الخطين 1 و23 ما سيؤدي حتماً الى حلٍ على حساب حقوق لبنان ومصالحه، وقد أعلم رئيس الوفد اللبناني الوسيط الأميركي بأنّ هذا الموقف هو موقف مبدئي.

 

إنتقل الوفد من الناقورة الى القصر الجمهوري في بعبدا حيث التقى الرئيس ميشال عون ووضعه في أجواء الجلسة الخامسة وخصوصاً موقف الوسيط الأميركي، فنوّه الرئيس عون بأداء وموقف الوفد المفاوض، ومن ثم أصدر بياناً أشار فيه الى أن المطلب الأميركي بحصر النقاش بين الخطوط المودعة لدى الامم المتحدة هو مخالف للطرح اللبناني من جهة ولمبدأ التفاوض من دون شروط مسبقة من جهة ثانية.

 

توقفت المفاوضات في الناقورة، إلّا أنّ الوسيط الأميركي دي روشيه عاد الى لبنان بتاريخ 14/6/2021 وزار رئيس الجمهورية الذي أبلغه مجدداً رغبة لبنان باستمرار التفاوض، مشيراً الى أنه لدى لبنان خيارات أخرى عديدة في حال عدم تجاوب الطرف الإسرائيلي مع الجهود المبذولة لتحريك المفاوضات. وكان يقصد بذلك إمكانية تعديل المرسوم 6433/2011 لجهة اعتماد الخط 29 بدلاً من الخط 23.

 

إثر ذلك انتقل دي روشيه الى وزارة الدفاع حيث التقى قائد الجيش جوزيف عون قبل عقد جلسة أخرى مع الوفد اللبناني، أشار خلالها إلى أن الوفد العسكري/ التقني قد أدى واجبه في الدفاع عن موقف بلاده من الترسيم البحري من الناحيتين القانونية والتقنية، وقد حان وقت نقل الملف الى السلطة السياسية بغية الحصول على تنازلات وحلّ القضية.

 

ردّ الوفد اللبناني بأنّ مقولة الانتقال من المستوى التقني الى المستوى السياسي للوصول الى حل غير صحيحة وفي غير محلها، إذ إن الوفد يقوم بعمله بناءً على توجيهات السلطة السياسية المختصة التي تتمسك بالحل القانوني والتقني الذي يبقى وحده المتاح، نظراً الى عدم اعتراف لبنان بإسرائيل كدولة، وإلى سياسة رفض التطبيع التي يعتمدها لبنان مع الكيان الإسرائيلي.

 

معاهدة دولية

 

المؤسف اليوم أنّ أعضاء الوفد العسكري/ التقني لم يكونوا على علم بأنّ مقدمة الاتفاق الذي على وشك أن يقره رئيس الجمهورية تنص على ما يلي: «هذه الرسالة بشأن مفاوضات ترسيم الحدود البحرية بين جمهورية لبنان ودولة إسرائيل (المشار إليهما في ما يلي جماعياً بـ»الطرفين» وفردياً بـ»الطرف»… وبأن السلطة السياسية التي كان واثقاً الوسيط الأميركي دي روشيه بأنها جاهزة للتنازل، على وشك الالتزام بقانون المعاهدات الذي نصت عليه اتفاقية «فيينا» خصوصاً ما ورد في مادتها الثانية الفقرة أ: «يُقصد بالاتفاق المعقود بين الدول في صيغة مكتوبة والذي ينظمه القانون الدولي، سواء تضمنه وثيقة واحدة أو وثيقتين متصلتين أو أكثر ومهما كانت تسميته الخاصة».

 

أما المادة 11 من الاتفاقية نفسها فتقول: «يمكن التعبير عن رضا الدولة الالتزام بالمعاهدة بتوقيعها، أو بتبادل وثائق إنشائها، أو بالتصديق عليها، أو بقبولها، أو بالانضمام إليها، أو أية وسيلة أخرى متفق عليها». لذلك فإنه مهما كانت التسمية التي سيحاول المسؤولون اللبنانيون إطلاقها على ما يفعلونه مع العدو الإسرائيلي، فإنه من منظور القانون الدولي هي معاهدة ملزمة، خصوصاً وأنها تضمنت بنوداً تفصيلية حول نمط العلاقة التي ستحكم إدارة المساحة البحرية من الحدود بين لبنان والكيان المحتل، إضافة الى تضمنها أيضاً أحكاماً ملزمة للبنان كعدم أحقيته مثلاً في التعامل مع شركة لبنانية المنشأ لتطوير حقوله النفطية والغازية المحتملة!

 

على أي حال، فإن هذا «المولود الهجين» الذي تهرب مفبركوه مع الأميركي ومن خلفه الإسرائيلي، من نشره أمام الرأي العام اللبناني الى أن سربته مصادر العدو، وهذا المولود الهجين الذي يتهرب اليوم مفبركوه من التوقيع عليه أو تحمّل مسؤولية تسليم الموافقة عليه الى المرجعية المفترضة إن كانت أممية أو أميركية، لن يرتقي يوماً الى مستوى الإنجاز الوطني التاريخي الذي كان يطمح إليه اللبنانيون الذين واكبوا بفخر واعتزاز أداء وفدهم العسكري/ التقني المفاوض، والذي تفوق على وفد العدو كما على الفريق الأميركي الوسيط من حيث قدراته العلمية والقانونية، والذي أظهر مناقبية وطنية عالية جداً لجهة التمسك بالحقوق ورفض الإملاءات حتى وإن كانت من إدارة دولة عظمى كالولايات المتحدة الأميركية.

 

كان اللبنانيون يأملون أن لا يتمكن أحدٌ من أن يأخذ توقيع الجمهورية من الرئيس في قضية بحجم سيادة وطن ومستقبل أجياله القادمة، لكن يبدو أن زمن الثبات على المواقف قد ولّى!

 

(*) المدير العام السابق لوزارة الإعلام