لا يمكن لأيّ مرجع ديبلوماسي وسياسي، إن اطلع على مضمون الوثائق التي سيجري توقيعها وتبادلها اليوم في مقر «اليونيفيل»، أن يقتنع بأنها ليست نوعاً من الإعتراف اللبناني غير المسبوق بـ«دولة اسرائيل» وصولاً الى اعتبار ما سيجري انه اكبر من «هدنة» وأصغر من عملية «تطبيع». فليس من السهل تجاهل المعادلة القائمة باعتراف لبنان بدولة إسرائيل بحراً وبقائها كياناً غاصباً في البر. وعليه، ما الذي يقود الى هذه المعادلة؟
أيّاً كان شكل الإحتفالات التي سيشهدها مقر قيادة القوات الدولية المعززة في الناقورة «اليونيفيل» بعد ظهر اليوم فإنها تسجّل لحظة تاريخية في حياة لبنان والمنطقة، وتشكل شبه «انقلاب» في طريقة التعاطي بين لبنان واسرائيل سواء بقي محصورا بطريقة إدارة الثروة النفطية والغازية المتوافرة في المناطق الاقتصادية المتقابلة للدولتين في المستقبل بمعزل عن اي تطور يمكن ان يحصل لاحقاً عند اي إشكال يمكن أن تشهده المنطقة المحيطة بـ«خط الطفافات» وتحديداً على جانبيها امتداداً الى النقطة الفاصلة بين المياه الاقليمية للدولتين وبداية احتساب حدود المنطقة الاقتصادية لكل منهما، كما بالنسبة الى ما يتصل بالجزء الجنوبي من «حقل قانا» المفترض متى بدأت عملية اقتسام الثروة في شأن الجزء الجنوبي منه الذي احتفظ لبنان بعمقه وترك السيادة الاسرائيلية على سطحه.
ومردّ هذه المعادلة الجديدة التي لا سابق لها في العلاقة بين دولتين صديقتين او عدوتين على حد سواء – باعتراف ديبلوماسيين عرب وغربيين وأميركيين خصوصاً ـ في ضوء القراءة النهائية التي أرجأها الموفد الاميركي الى مفاوضات الترسيم الذي لمّح اكثر من مرة الى انه لم تُعقَد اي «تسوية» او «تفاهم» بين دولتين جارتين كالتي أنجزت بين الجانبين اللبناني والاسرائيلي بطريقة فريدة لا سابق لها وهي تقترب من أن تكون صيغة «عجائبية» تمّ تركيبها كما «البازل».
وعليه، وباعتراف المراقبين الدوليين وخصوصا المطلعين على قوانين البحار وآليات ترسيم الحدود بين المناطق الاقتصادية المماثلة، فقد أنجز هوكشتاين تفاهماً ليس من السهولة الوصول إلى توصيفه بطريقة دقيقة وواضحة لا يمكن أن تقود الى الجدل في شكله ومضمونه عدا عن توقيته الذي حظي بإجماع لا نقاش فيه وهو الذي تم التوصّل إليه في لحظة تاريخية قد لا تتجدّد مرة أخرى في العقود المقبلة كما كانت مفقودة من قبل. ولذلك سمح لكل طرف من اطراف التسوية المنجزة ان يفسّره على طريقته. فبعد ان وزّع الموفد الاميركي «الهدايا» على مختلف الأطراف المستفيدين مباشرة منه كما الى تلك التي ساهمت في إنجازه بشكل من الأشكال تمهيداً للافادة منه في وقت قريب كما فعل الفرنسيون والقطريون الذين يستعدون لدخول المنطقة اللبنانية التي تم ترسيمها استكشافاً وتسويقاً في وقت لاحق من خلال التركيبة الجديد للكونسورتيوم الذي ستنضَم قطر اليه الى جانب الفريقين الفرنسي والايطالي بدلاً من الجانبين الروسي القديم واللبناني الذي استحوذ على حصته قبل فترة قصيرة.
ولا تنسى هذه القراءة لعملية توزيع المصالح أن الوثائق التي ستوقّع اليوم ستحضر كـ«وثيقة» يمكن ان «تترجم» مرة اخرى و«تستنسخ» في عملية تحديد «المنطقة الاقتصادية الخالصة لـ«قطاع غزة» في وقت قريب ان اكتملت الظروف المؤدية الى عقد مثل هذه التسوية التي بدأ الحديث عنها بوساطة أميركية ـ مصرية تحاكي الثروة المقدّرة في تلك المنطقة ومدى اقترابها من الاحواض الإسرائيلية الخالصة بالنظر الى الوضع الاستثنائي للقطاع المُعتبر من الجانب الإسرائيلي ككيان له سلطة ذاتية إن أعاد المراقبون قراءة التفاهمات الاسرائيلية – الفلسطينية من «أوسلو» الى مجموعة التفاهمات الاخيرة مع السلطة الفلسطينية في مرحلة يجلس في كرسي البيت الأبيض من لا يزال ينادي بـ«حَل الدولتين» كأفضل طريقة لتسوية العلاقات بين دول غاصبة أرض فلسطينية محتلة.
والى هذه المعطيات التي قاد اليها التفاهم الأخير، لا بد من قراءة النتائج المتوقعة على سير العلاقات بين لبنان والعدو الاسرائيلي في المرحلة المقبلة وتحديداً عند اي إشكال يمكن أن يحصل في منطقة قريبة من «خط الطفافات» الذي بقي «منظراً» ناتجاً من «أمر واقع» مرفوض من الجانب اللبناني. فأيّاً كان العمق الذي يحتسب بالنسبة الى هذا الخط، فإنّ «الصيغة النهائية» الملزمة للطرفين اللبناني والاسرائيلي التي يحملها الموفد الاميركي الى «اللقاءات غير المباشرة» المتوقعة اليوم في الناقورة ستقود الى اعتماد آلية جديدة تطبّق ابتداء من الغد عند حصول أي اشكال يثير الخلاف على جانبي الحدود البحرية امتداداً من اي نقطة برية على الحدود بينهما وامتداداً الى عمق يمتدّ الى حيث تتلاقى الحدود في اي نقطة متّفق عليها بين المنطقتين الخالصة لكلا الدولتين، مُضافة الى مساحة الجزء الجنوبي من «حقل قانا» المفترض الذي بات التحَكّم به وفقاً لمعادلة جديدة غير معمول بها في اي اتفاق سابق وضعت فيه شركة «توتال اينيرجي» طرفاً ثالثاً مقرراً ومعبراً إجبارياً الى اي تفاهم تُجريه مع الجانب الإسرائيلي من دون أن يكون لبنان معنيّاً به لا ماديا ولا لوجستيا، بعدما تنازل عن حقه بتلك المنطقة وتجاهَل التفاهم اي اشارة الى حقل كاريش وما كان يشكّله من خرق للمنطقة الاقتصادية اللبنانية المتنازَل عنها في الخط 23.
والى مجمل الملاحظات هذه، فإنّ على الأطراف المعنية بالتسوية التي ستكرّس اليوم الاعتراف مُسبقاً انها تركت مجموعة من الالغام التي يمكن ان تنفجر في اي لحظة وفي المحطات المقبلة. فأيّ خلاف يمكن أن تتسبّب به القراءة اللبنانية المختلفة عن الاسرائيلية والاميركية وربما الدولية لما تمّ التوصل اليه، سيبقى «خط الطفافات» واحدة من مزارع «شبعا البحرية» إن شاء «حزب الله» تحريك الملف للاحتفاظ بسلاحه في المنطقة الجنوبية. فالضوابط التي تحول دون مثل هذا المشهد غير موجودة عدا عن تلك التي يمكن أن تَنشأ حول «حقل قانا» في ظل فقدان اي مرجعية قضائية خاصة كانت او عامة ودولية للبت بأيّ خلاف كـ«محكمة البحار» مثلاً، وهي التي تتجاهلها اسرائيل وهي النظرية التي أدّت إلى قبول الطرفين بالوسيط الأميركي «حكماً» و«وسيطاً نزيهاً» إلى أبد الآبدين.
وبناءً على كل ما تقدم لا يمكن تجاهل النظرية التي استندت الى هذه المكونات الديبلوماسية والسياسية والتقنية والإقتصادية البحتة التي بُنيت عليها التسوية التي تم التوصل اليها بين محطتي «هدنة بحرية لبنانية ـ اسرائيلية» جديدة تحكم المنطقة البحرية من دون غيرها بمعزل عن بقاء إسرائيل في التفسير اللبناني للتفاهم «كياناً محتلاً وغاصباً لفلسطين البرية»، ومن لديه قراءة اخرى اكثر دقة تنطلق من هذه المعطيات والمؤشرات الثابتة فليتقدم بها