الإقرار بأن المقاومة شكلت العامل الحاسم الذي فرض على إسرائيل الخضوع والموافقة على الاتفاق، لم يعد مجرد تقدير سياسي أو أمني، أو رأي سياسي أو تكهنات صحافية. التسريبات الرسمية في إسرائيل أقرّت بدور المقاومة في وثيقة رسمية صادرة عن جيش العدو والاستخبارات العسكرية. وقد قُدّمت الوثيقة الى المستشارة القانونية للحكومة غالي بهراف مياره على شكل توصية بأن «هناك ضرورة أمنية وسياسية للتوصل الى اتفاق في وقت قريب ومن دون تأجيل، من أجل تجنب تصعيد أمني احتمالات حدوثه مرتفعة»، علماً أن هذا التقدير نفسه موجود لدى مجلس الأمن القومي ووزارة الخارجية مع تغييرات طفيفة، بحسب ما أكدت القناة 12 في التلفزيون الإسرائيلي.
ويكشف التطابق في التقدير بين الجهات الأمنية والسياسية إدراك حجم خطورة عدم الاتفاق على الأمن القومي الإسرائيلي. والتسليم بحقيقة أنه في حال فشل المفاوضات، فإن حزب الله سيبادر باستهداف منشأة «كاريش» عسكرياً، ما يفرض على إسرائيل رداً مضاداً وبالتالي التدحرج الى مواجهة عسكرية واسعة.
ويكشف هذا الموقف الرسمي أن الجيش يقرّ، في وثيقة رسمية، بأنه غير قادر على ردع حزب الله أو إحباط أي محاولة عسكرية لاستهداف منشآت الغاز أو حمايتها إذا ما قرر الحزب ضربها. ولذلك لم يكن الموقف من الاتفاق بالموافقة عليه أو عدم معارضته، وإنما بأنه «ضرورة ملحة». كما يشير ذلك إلى أن هذه المؤسسات كانت تدفع للوصول إلى الاتفاق. المعلق السياسي في صحيفة «معاريف»، طال ليف رام، رأى أن وصف التوقيع على الاتفاق بـ«الضرورة الملحة» بسبب التهديدات يمنح حزب الله إنجازاً معنوياً، ولذلك كان ينبغي على إسرائيل ألّا توقّعه تحت الضغط، حتى لو كان لها مصالح فيه.
على المستوى القانوني، سيساهم دخول الجيش والمؤسسة الأمنية على الخط في تعطيل أي محاولة سياسية أو قانونية لعرقلة هذا المسار من جهات وشخصيات سياسية، وهو ما يُفسر تصميم الحكومة وتمسكها بموقفها كونها تستند الى قاعدة صلبة. وسيكون الموقف الأمني هو المرجّح لكفة القبول بالاتفاق، رغم كل الحديث عن ثغرات قانونية ناتجة من كون الحكومة انتقالية أو لأن الاتفاق يأتي عشية الانتخابات أو بفعل السجال القائم حول المياه التي وصفها نتنياهو بالسيادية، فيما يرى آخرون أنها مياه اقتصادية.
في ضوء ذلك، يبدو أن الإشكالات القانونية كان لها حيثيات واقعية، انطلاقاً مما كشفته القناة 12 بأن النقطة الأساسية التي شغلت المستشارة القانونية للحكومة وطاقمها كان السؤال: هل يمكن الحكومةَ الانتقاليةَ أن توقّع على اتفاق كهذا، والسؤال الآخر الذي تم التشديد عليه: هل هناك أمر عاجل للتوقيع في هذا التوقيت؟ في إشارة الى أنه كان هناك طرح بإرجاء التوقيع الى ما بعد الانتخابات وتشكل حكومة فعلية.
الجواب الصريح الذي قدَّمته الجهات المختصة، في الجيش والاستخبارات ومجلس الأمن القومي ووزارة الخارجية، وأوردته الوثيقة، هو أن عدم الاتفاق ينطوي على مخاطر كبرى نتيجة التصعيد العسكري الذي سينشب في أعقاب ما سيبادر إليه حزب الله، ما شكَّل جواباً مباشراً وصريحاً على أسئلة المستشارة القانونية وحسم الموقف. وعلى هذه الخلفية، حددت الوثيقة أيضاً بأن الاتفاق بصيغته الحالية «يساهم بشكل كبير في تحقيق المصالح الأمنية الإسرائيلية» كونه سيجنّب الكيان حرباً قد تكون لها تداعيات مفتوحة يتجاوز نطاقها لبنان وفلسطين المحتلة الى الساحتين الإقليمية والعالمية من بوابة الطاقة.
وتكشف هذه المحطة وما رافقها من تقديرات ومواقف والنتائج التي ترتّبت على ذلك، عن حقيقة أن هناك هيمنة واضحة للأجهزة المهنية والأمنية في إسرائيل في اتخاذ القرارات التي تتعلق أيضاً بالاقتصاد وقطاع الطاقة، لكونها تتّصل بالأمن القومي الإسرائيلي. ولذلك تداخلت في هذا الاتفاق الأبعاد الأمنية والاستراتيجية مع الأبعاد الاقتصادية، وانعكس ذلك في هوية الجهات التي أدارت المفاوضات تحت مظلّة مجلس الأمن القومي الإسرائيلي.
وتؤكد مواقف الجيش والجهات الأمنية والسياسية الأخرى أن السجال الذي تشهده إسرائيل لا يقتصر فقط على كونها محاولة تسجيل نقاط عشية الانتخابات، وإنما قبل أيّ شيء آخر لكونه يمثل أيضاً خضوعاً صريحاً أمام معادلة المقاومة، وتدرك إسرائيل بكل قوسها السياسي ومؤسساتها المهنية أن هذه المحطة تنطوي على أبعاد ورسائل خطيرة ستكون لها تداعياتها على صورة الكيان في البيئة الإقليمية.
نتنياهو: تاريخ من الاعتراض الكلامي ثم الالتزام
أبرز الاعتراضات على الاتفاق المرجح حول الترسيم البحري جاء من إسرائيل، وقاده رئيس حزب الليكود المرشح لرئاسة الحكومة بنيامين نتنياهو الذي لوّح بأنه في حال وصوله إلى الحكم سيكون في حل من الاتفاق.
ردود الفعل على كلام زعيم المعارضة ركزت على أنه يستثمر الأمر في مسار الانتخابات. علماً أن تاريخه السياسي يزخر بمواقف راديكالية سرعان ما تراجع عنها بعد توليه المسؤولية. فهو، على سبيل المثال، كان من أشدّ المعارضين لاتفاقية أوسلو التي عقدها حزب العمل بزعامة إسحق رابين مع قيادة منظمة التحرير عام 1993، إلا أنه التزم بها عند توليه السلطة، ثم وقع اتفاقات الخليل مع السلطة الفلسطينية التي انتجتها اوسلو. والأمر نفسه ينطبق على مواقفه تجاه لبنان. ففي عدوان «عناقيد الغضب»، في نيسان 1996، كان نتنياهو في المعارضة ويستعد لانتخابات في مواجهة رئيس حكومة العدو حينها شمعون بيريز، وعندما انتهت المعركة إلى فشل كبير للعدو وإقراره بتفاهم وفر الحماية للمدنيين من دون أن يعيق عمل المقاومين، وقد ألقى خطاباً أمام الكنيست أكد فيه أنه «محظور أن تفشل عملية عناقيد الغضب بعد كل هذه المعاناة والدماء. محظور العودة إلى اتفاقية التفاهم (تفاهم الكاتيوشا في أعقاب عدوان تموز 1993). على الإرهابيين في حزب الله ومرسليهم في إيران وحماتهم في دمشق أن يعرفوا أنه إذا قامت حكومة برئاستنا. فإنها ستحاربهم من دون هوادة ومن دون أي مساومة…. وأن حكومة برئاسة الليكود ستهتم بأن تكون أيام الإرهابيين سيئة، سيئة جداً».
في أيار من العام نفسه، أجريت الانتخابات وفاز نتنياهو. إلا أن العدو بقي ملتزماً بعمل لجنة تفاهم نيسان، وظلت معادلة الردع قائمة. وفي كل مرة خرق العدو التفاهم كان هناك رد على المستوطنات.