Site icon IMLebanon

الترسيم البحري يفتح باب الانفراج

 

تماماً كما كان متوقعاً، فلقد اندفع كل طرف إلى توظيف اتفاق الترسيم البحري في اطار الاستثمار السياسي الداخلي. فريق يستميت لإدراجه في خانة الإنجاز الذاتي والشخصي، وفريق آخر يجهد للبحث عن الثغرات والسلبيات لرميها في وجه خصومه. لم نتعظ يوماً رغم كل المصائب التي حلّت بنا، بجعل المصلحة العامة الأولوية، والهدف وليس المصالح الخاصة الضيّقة. وقد تكون اهم مؤشرات إنجاز اتفاق الترسيم البري أنّ لبنان يستعد لوداع مرحلة قاتمة جداً من تاريخه، والاستعداد والتمهيد لدخول مرحلة جديدة، او بتوصيف أدق، حقبة اخرى على انقاض سابقاتها.

لم يكن تفصيلاً الكلام الذي أدلت به السفيرة الاميركية في لبنان دوروثي شيا، فهي تحدثت في وضوح عن استعادة لبنان لأنفاسه قريباً. بالطبع هنالك مراحل اخرى لا تزال تنتظر لبنان لولوج مرحلة استعادة الاستقرار، كمثل انتاج تسوية سياسية تشكّل المظلّة المطلوبة للمرحلة المقبلة وترتكز على استكمال تطبيق بنود «اتفاق الطائف»، ولا سيما منها اعتماد اللامركزية وإنشاء مجلس شيوخ، وإضافة بنود تشكّل حلاً للثغرات التي ظهرت خلال المراحل الماضية حول آلية عمل السلطة التنفيذية. وطالما انّ «حزب الله» هو الطرف الأساسي المعني في لبنان، خصوصاً لجهة حضوره العسكري، فمن المنطقي توقّع حصول تفاهمات في الكواليس المغلقة حول «بروتوكول» واضح، مقروناً بتطمينات أمنية. وعلى ان يلي ذلك انتخاب رئيس جديد للجمهورية والاتفاق سلفاً على حكومة مهمّتها اطلاق ورشة إعادة إعمار مؤسسات الدولة المدمّرة.

 

لكن الحذر يبقى واجباً خصوصاً في منطقة مثل الشرق الاوسط، حيث المفاجآت غير المحسوبة واردة كل لحظة. وعلى سبيل المثال، كادت المزايدات الانتخابية في اسرائيل ان تطيّر اتفاق الترسيم البحري تحت عنوان الضمانات الأمنية في الاتفاق. والموضوعية تقضي بالإقرار بأنّ الرئيس الاميركي جو بايدن كان الداعم الفعلي والجدّي، ما سمح بولادة الاتفاق. وليس من المبالغة القول إنّه الأب الروحي للاتفاق، وهو ما حرص على إظهاره عبر الاتصال للتهنئة مباشرة بالرئيس اللبناني وبرئيس الحكومة الاسرائيلية، مع لبنان، أظهرت ادارة بايدن انّ الاتفاق هو الممر الالزامي للحدّ من حال الانهيار والدخول في مشروع إعادة الاستقرار اليه. ومع اسرائيل كان الضغط على يائير لابيد المرتبك بسبب وضعه المحشور، بأنّ تسويق الاتفاق سيؤدي إلى تحسين صورته في الانتخابات لا العكس، وبأنّه ضمان أمني للحدود الشمالية. لكن بنيامين نتنياهو سعى في المقابل إلى نزع الشرعية عن الاتفاق.

 

بايدن اظهر في المقابل للابيد حرص واشنطن على ضمان عدم ذهاب اجزاء من الارباح اللبنانية إلى «حزب الله». إدارة بايدن تدرك جيدا أنّ المشاركة المرتفعة في الانتخابات الاسرائيلية ستلعب لمصلحة نتنياهو، لذلك تدفع في اتجاه تبريد الاجواء رغم الآمال الضعيفة.

 

لكن المفاجآت السلبية لم تنحصر فقط في التطورات الانتخابية في اسرائيل، فالعلاقة المتوترة بين السعودية وادارة بايدن وصلت إلى درجات متقدّمة مع قرار اوبك+ بخفض انتاجها لمليوني برميل يومياً بدءاً من مطلع الشهر المقبل. والمشكلة هنا أنّ ذلك قد يؤثر على لبنان، حيث من المفترض ان تتولّى السعودية رعاية مرحلة اعادة اعمار مؤسسات الدولة بالتعاون مع صندوق النقد الدولي وفق المشروع الاميركي.

 

إدارة بايدن قرأت في قرار اوبك+ الدفع في اتجاه رفع اسعار المحروقات قبل ايام معدودة من الانتخابات النصفية، وهو ما سيلعب لمصلحة الحزب الجمهوري، هذا من جهة، أما من جهة اخرى، سيؤدي إلى اعادة رسملة، روسيا ما سيسمح لها باستمرارها في تمويل حربها في اوكرانيا، خصوصاً وانّ موسكو تلوّح باستخدام القوة النووية. صحيح انّ العواصم الغربية تضع هذا التلويح في اطار الخدعة، الاّ انّها مع ذلك تدرس كل السيناريوهات المحتملة، على الرغم من انّ بوتين لم يقرن تهديده الكلامي بخطوات تنفيذية كمثل تركيب الرؤوس النووية على الصواريخ. وفي الاحتمالات الغربية، أن يعمد بوتين إلى تفجير قنبلة نووية في القطب الشمالي او فوق البحر الاسود، او حتى استهداف قاعدة عسكرية بقنبلة محدودة القوة.

 

لذلك، فإنّ اراحته مالياً ستجعله قابلاً للاندفاع اكثر في الحرب بدل الذهاب الى قاعات التفاوض. لذلك استمرت الفجوة في الاتساع بين واشنطن والرياض أحد أقدم حلفائها، حيث انّ بوتين يحتاج للإيرادات المالية للحفاظ على قوته في السلطة.

 

في المقابل، فإنّ السعودية مستاءة من عودة الادارة الاميركية إلى الاتفاق النووي مع ايران، والذي سيمكّنها من الحصول في السنة الاولى على زهاء 90 مليار دولار، اضافة إلى عشرات المليارات في السنوات اللاحقة، والتي تشتكي السعودية من أنّها ستستخدم قسماً منها ضدّها، خصوصاً في اليمن.

 

ويعطي اتفاق الترسيم البحري في لبنان دليلاً حاسماً الى أنّ الاتفاق الاميركي ـ الايراني اكتمل، وانّ توقيع الاتفاق ينتظر توقيتاً محدّداً، وهو بعد الانتخابات الاسرائيلية والاميركية.

 

الردّ الاميركي جاء قاسياً، مرة عبر اعلان بايدن بوضوح أنّ السعودية ستواجه عقوبات، ومرة اخرى عبر اعلان الأمن القومي الاميركي أنّ ادارته ستراجع علاقتها مع السعودية، وتلا ذلك الغاء واشنطن اجتماعها الامني المهم في شأن ايران مع السعودية، والذي كان سيُعقد في 17 الجاري والمخصّص للدفاع الجوي والصاروخي في الخليج.

 

وفي موازاة، ذلك بوشرت التدابير للإفراج عن صفقة بيع طائرات «أف 16» لتركيا، ما يوحي بالعمل لترسيخ تفاهمات جديدة. لكن الردّ السعودي عبر وزير الخارجية أوحى بالعمل على احتواء التوتر القائم ولملمة الوضع، فهو اعتبر انّ قرار اوبك+ اقتصادي بحت، وانّ التعاون العسكري بين الرياض وواشنطن يخدم البلدين واستقرار المنطقة.

 

واستطراداً، فإنّ المرجح هو إعادة تدارك الوضع، وانّ لبنان قد يكون احد ساحات اللملمة. بدليل انّ رئيس دولة الامارات العربية المتحدة وظّف زيارته لموسكو في اطار وساطة لنزع فتيل الحرب في اوكرانيا فهو يحظى بعلاقة ممتازة مع بوتين وهو يتحرّك بالتنسيق الكامل مع السعودية.

 

واستنتاجاً، فإنّ بداية الانفراج في لبنان من خلال الاتفاق على ترسيم الحدود البحرية من المفترض ان يستمر وفق خريطة الطريق المرسومة.

 

وزيرة الخارجية الفرنسية كاترين كولونا التي ستزور بيروت ستحمل معها ملف شركة «توتال»، اضافة الى تركيزها على استكمال الاصلاحات المطلوبة، وتشكيل حكومة وخصوصاً ملف الانتخابات الرئاسية ولو انّه لن تتطرق إلى اسماء كما يتوهّم البعض.

 

وفي 28 الجاري من المفترض ان يزور رئيس الكنائس الشرقية في الفاتيكان الكاردينال ليوناردو ساندري بيروت، لمتابعة الملفات التي كان طرحها الفاتيكان سابقاً. والارجح انّ الانتخابات الرئاسية ستكون حاضرة، ولكن من دون التطرق الى اسماء، بل لجهة وجوب حصولها. كذلك فإنّ رئيس الوكالة الدولية المسؤولة عن ملف النازحين السوريين فيليبو غراندي سيزور لبنان خلال الاسابيع المقبلة. واللافت انّ غراندي كان قد اجتمع مع وزيرة الخارجية الفرنسية في باريس الثلاثاء الماضي. غالب الظن انّ خريطة الطريق الموضوعة تلحظ اعادة النازحين السوريين إلى بلدهم وفق خطة مفصّلة، وهو ما ستتطرق اليه كولونا خلال زيارتها لبيروت.

 

في نيسان 1981 كان بايدن أحد الاعضاء البارزين والاصغر سناً في مجلس الشيوخ الاميركي. يومها انفجرت معركة زحلة وكادت ان تحصل مواجهة عسكرية سورية ـ اسرائيلية إثر إسقاط مروحيات سورية وادخال صواريخ ارض ـ جو سورية الى البقاع.

 

فتقدّم بايدن بطلب حاز على موافقة اكثرية مجلس الشيوخ يحضّ فيه الادارة الاميركية على التدخّل العاجل. وبالفعل ارسل يومها الرئيس الاميركي رونالد ريغان مبعوثاً له هو فيليب حبيب، في مهمة نزع فتيل المواجهة السورية ـ الاسرائيلية ووقف اطلاق النار في زحلة.

 

اليوم وبعد 41 عاماً، يضغط بايدن لمصلحة ترسيم الحدود البحرية ودفع الوضع المحتقن في لبنان إلى مرحلة انفراج.