IMLebanon

«عاش الترسيم» فهل «يَحيا الرئيس»

 

 

عمّت الاحتفالات أكثر من عاصمة من واشنطن وباريس وروما الى بيروت وتل أبيب مروراً بنظيراتها العربية والغربية ترحيباً باتفاق الترسيم بين لبنان واسرائيل. وهو ما أعطى ما جرى بين «دولتين عدوتين» ابعاداً تفوق بكثير ما يتوقعه احد، خصوصا اولئك الذين يبحثون عن انتصارات صغيرة لاستثمارها في الداخل اللبناني. وتزامناً مع البحث في طريقة ترجمة التفاهم طرحت الأسئلة حول مصير مساعي انتخاب الرئيس العتيد للجمهورية او تشكيل الحكومة؟ وهل ماتت كل السيناريوهات المطروحة؟

منذ اسابيع عدة رسمت الخطوط العريضة للتفاهم الخاص بترسيم الحدود البحرية بين لبنان واسرائيل الذي تم التوصل اليه بالامس القريب في حدودها الدنيا والقصوى. ولم يعد هناك مجال للمناورة، فهامش الحركة ضاق الى الحدود التي لامست الخط الاحمر امام طرفَي المفاوضات والمنخرطين فيها والتي تعددت وجوهها المحلية والاقليمية والدولية. فقد بات واضحاً ان هناك حكومات عدة انخرطت في المفاوضات ومعها الشركات الدولية العملاقة العاملة في قطاع الطاقة. ولذلك وجد الوسيط الاميركي عاموس هوكشتاين نفسه في قلب المعركة بعدما اكتشف حجم الرهان على مهمته ودوره ولم يعد قادراً على العودة الى الوراء ولو لشبر واحد. فهو صار في موقع حساس يتفرّج على مؤشرات التقدم الذي يمكن ان يحققه بعدما حلم به لسنوات عدة وقدّر عالياً ما يمكن ان يعكسه، ليس على مستوى إدارته التي تنتظر منه شيئا ملموسا لطالما سعت اليه فحسبن انما على مستوى دول المنطقة والعالم الذين يخوضون حرب الطاقة.

 

وأمام هذه المعادلة اعترف أحد المطلعين على مهمة هوكشتاين أنه ومنذ فترة بات ممسكا بخيوط اللعبة من جوانبها المختلفة الى درجة أنه لم يعد يرى أمامه سوى التوصّل الى «لحظة التفاهم»، فتحوّل آمرا ناهيا في بعض المحطات الحرجة من المفاوضات، يبحث عن مفردات ومصطلحات توائم بين اللغات العربية والانكليزية والعبرية لتوفير المخارج لِعُقَد ظهرت انها مستعصية من اجل تفكيكها واعطائها الأبعاد التي تتلاءم ومصالح الأطراف كافة. فما يجري بحثاً عن الثروة النفطية والغازية في المنطقة تعدّى مصالح دولتين جارتين عدوتين عند قياسها بحجم ما تحتاجه الأسواق العالمية من المشتقات النفطية وإمكان توافرها في أفضل الظروف الممكنة وبأقل الأسعار العالمية التي تضخّمت الى ان بلغت الذروة في العالم.

 

وأمام هذه الوقائع وما يمكن ان توحي به من مؤشرات، وجدَ الوسيط الاميركي نفسه أمام معادلات صعبة يجب ان توفّر فوز الجميع بها ليخرجوا منتصرين كل على قياس ما تحتاجه المرحلة. فما تريده حكومة اسرائيل من التفاهم المنتظر بات رهن أيام قليلة فاصلة عن انتخابات تشريعية قاسية جدا، تحتاج الى من يوفّر الدعم لحكومة مُصابة بعطب دستوري وسياسي داخلي وتُواجِه خصوماً بحجم رئيس الحكومة السابق بنيامين نتنياهو يُمعن في تفكيك تضامنها بعد ان خرج ثلاثة وزراء من حظيرة رئيسها يائير لابيد وحليفه وزير الدفاع بيني غانتس من جهة. ولبنان غارق في أزماته المالية والإقتصادية التي اقتربت من لحظة الانهيار الشامل الذي لم يعد ينفع معه اي مخرج يمكن التوصّل اليه.

 

وعدا عن هذه المعادلة التي تعني لبنان واسرائيل فالادارة الاميركية التي تواجه أقسى الحروب في مجال الطاقة تواجه اكثر من معضلة، فقد بلغت أسعار النفط ومشتقاته ما لا يتحمّله الشعب الاميركي الذي يستعد للمشاركة في الانتخابات النصفية لأعضاء الكونغرس منتصف الشهر المقبل. ولا يمكن ان ننسى انّ واشنطن وعدت حلفاءها في العالم بتأمين البديل من الغاز الروسي الذي يغطي حاجات بعض الدول الاوروبية بنسبة تراوحت بين 40 و60 % من حاجاتها، ولم تتمكّن واشنطن من إقناع دول الخليج العربي برفع نسبة انتاجها الى الحدود التي توازي النقص الحاصل بين ما هو متوافِر منها في الأسواق العالمية وما تحتاجه البشرية، قبل ان تنفجر الازمة لتتوسّع وتتحول مواجهة أميركية مع مجموعة دول «اوبك» التي قررت خفض انتاجها في خطة لا يمكن فصلها عن مدى تأثير روسيا في الدفع اليه سعياً للخروج من الحصار غير المسبوق التي تتعرض له منذ غزوها أوكرانيا.

 

وأمام هذه الصورة البانورامية المبنية على فسيفساء المصالح الدولية والاقليمية المتضاربة، كان لبنان حاضرا على طاولة المفاوضات على خلفية البحث عن انجازٍ ما طال انتظاره لسنوات عدة تحت تأثير ظروف اقتصادية ومالية صعبة جدا وفي توقيت دقيق جدا وضعته الازمة الاوكرانية في صلب المعركة الطاقوية وهو لا يمتلك منها سوى الأمل في انّ هناك ثروة في بحره، ولم تسمح له الظروف الاقليمية والدولية وانخراط الحكم فيه في «محور الممانعة» مجرد التفكير بها في السنوات العشر الاخيرة ولو على مستوى التثبّت من وجودها. يحدوه الأمل في أنه وطالما ان منطقة شرق المتوسط غنية بهذه الثروة التي تستفيد منها اسرائيل وقبرص وتركيا ومصر فلماذا لا تكون له نسبة منها فهو في قلب المنطقة الإقتصادية نفسها تحوطه الأحواض الغنية بطريقة لا يمكن ان يكون مُستثنى منها.

 

على هذه الخلفيات نجحت النصائح الدولية والاقليمية والداخلية في توحيد الموقف اللبناني في الأسابيع القليلة الماضية، ليس من اجل كل ما يعانيه الشعب اللبناني من مسلسل الازمات المتناسلة بل من اجل إتمام عملية الترسيم دون سواها مما هو مطلوب للخروج منها. فمثل التفاهم الذي تم التوصّل اليه يشكّل مصدر أمن وأمان لتعود الشركات البترولية العملاقة للعمل حيثما غابت وتستأنف عملها حيثما وجدت في افضل الظروف التي تتطلبها. فمَن يقرر تخصيص المليارات من الاستثمارات التي تحتاجها مثل هذه الورش العملاقة لا يدخل اي منطقة مُتنازع عليها بأي شكل من الاشكال الى ان توصلت واشنطن الى ما أرادته من تفاهم في شكله ومضمونه وتوقيته، فبدأ العالم باحتساب الانجازات وتقدير الأرباح المنتظرة على ما هو قائم في الايام الماضية وما يمكن ان يؤشّر اليه من انفراجات امنية قبل ان تكون سياسية او اقتصادية، فالمنطقة كانت تغلي فوق صفيح ساخن وقد تم إبعاده الى حيث لا يستطيع أحد بعد اليوم العودة اليه واستحضاره من جديد.

 

وانطلاقاً مما تقدّم تبدو الساعات المقبلة زاخرة بالحديث عن طريقة ترجمة ما تم التفاهم عليه ليكتسب شرعيته الوطنية والاممية. وعليه، طُرح السؤال: هل سيقود هذا الانفراج الى تمديد الموقف الرسمي الموحّد من ملف الترسيم الى ملفات أخرى ولا سيما منها الملف الرئاسي الذي تحتاجه البلاد قبل الملف الحكومي وسط قلق بالغ من ان كل ما تحقق لم يغيّر في أسعار العملة الخضراء؟ ما يوحي ان الأمور النقدية والمالية ما زالت عند تعقيداتها وستقدّم جلسة المجلس النيابي اليوم المخصصة لانتخاب رئيس جديد للجمهورية اولى الصوَر عن التركيبة اللبنانية المعقدة والهشّة العاجزة عن التوصّل الى إنتاج الرئيس العتيد للجمهورية. وإن صَح القول انّ الملف الحكومي ما زال مجمّداً في أمتاره الاولى فإنه يصحّ القول «عاش الترسيم» ولم يحيا بعد لا الاستحقاق الرئاسي ولا الحكومي، فلننتظر.