Site icon IMLebanon

الترسيم.. إنجاز للبنان أم للمنظومة؟

 

يُعتبر الترسيم محطة استراتيجية ونقلة نوعية على مستويين أقلّه: الصراع بين لبنان وإسرائيل، والوضع الداخلي اللبناني، وهذه محطة من المحطات التي يمكن القول فيها انّ ما بعدها غير ما قبلها.

سيكون للترسيم البحري بين لبنان وإسرائيل ارتداداته الداخلية السياسية والمالية والسلطوية، وسيحاول فريق السلطة استثماره إلى أبعد الحدود على رغم انّ هذا الاتفاق هو إنجاز للولايات المتحدة بامتياز ونتيجة عملية للدفع الأميركي في ظل حاجة واشنطن إلى مكسب في الشرق الأوسط عشيّة انتخابات نصفية ومع إخفاق الإدارة الحالية في مواصلة اتفاقيات السلام التي نجحت الإدارة السابقة في إبرامها، وفي ظل تعثُّر العلاقة مع المملكة العربية السعودية على رغم القمة التي عقدها الرئيس الأميركي في جدة، وجاء قرار «أوبك بلس» بخفض الإنتاج النفطي ليُشعل موجة من الغضب لدى حزب الرئيس على مستوى الديموقراطيين باتهام الرياض بدخولها عاملاً مؤثراً في هذه الانتخابات من باب رفع تكلفة الوقود على الناخب الأميركي وتَرييح موسكو على خلفية حربها مع أوكرايا ونزاعها مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.

وما هو معلوم انّ اتفاق الترسيم البحري حصل بدفعٍ أميركي وحاجة أوروبية ومصلحة إسرائيلية ولبنانية على خلفية النزاع الروسي-الأوكراني، ولولا هذا النزاع لما تسرّعت وتيرته، وكان بقي معلّقاً حتى إشعار آخر ونشوء ظروف كالتي استجدّت مع الحرب الروسية، إلا انّ الضغط الأميركي على تل أبيب فَعل فعله، وتقاطع هذا الضغط مع مصلحة «حزب الله» بالترسيم واستخراج الغاز كباب أوحد، بالنسبة إليه، لفرملة أزمة مالية مُتدحرجة قد تطيح بالدولة الفاشلة التي يُمسك بمفاصلها، وأي سقوط لهذه الدولة يشكل خسارة مدوية له، لأنه بنتيجة هذا السقوط ينكفئ إلى داخل المربّع الشيعي ويفقد أوراق قوته.

وليس خافياً على أحد أيضاً انّ «حزب الله» يعتبر بأنّ الممرات الأخرى لإخراج لبنان من الأزمة المالية لا تتناسَب مع وضعيته ودوره، فلا شروط صندوق النقد الدولي الإصلاحية هو في وارد الالتزام بها لأن أي إصلاح يحدّ من دوره، ولا التمويل الخليجي وتحديداً السعودي يناسبه باعتبار ان الشرط الأساس لهذا التمويل التزام السلطة الجديدة في لبنان، المُنبثقة عن الانتخابات الرئاسية، باتفاق الطائف ووضع حد لاستمرار هذا البلد منصة لاستهداف الدول الخليجية.

وانطلاقاً من كل ذلك، وجد في الترسيم البحري نافذة لفرملة الانهيار من دون ان يتخلى عن سلاحه بحجّة استمرار النزاع البري، ولا التخلي عن عقيدته بإزالة إسرائيل من الوجود مُتحججاً بوقوفه خلف الدولة اللبنانية، فيكون كَمَن أمسك العصا من وسطها مستفيداً من الترسيم البحري لمنظومته ومن دون ان يتنازل عن مواصلة دوره في مواجهة إسرائيل ولا التراجع عن سَرديته بأنّ وجود الكيان الإسرائيلي يشكّل خطراً على لبنان ويجب إزالته.

ويعتبر «حزب الله» ضمناً بأنه وَجّه رسالة إلى الولايات المتحدة حيال براغماتيته وتَبديته لمصالحه على حساب عقيدته، وانه على استعداد لتبادل الخدمات والمصالح مع واشنطن مستقبلاً، لأنّ ما ينطبق على الترسيم البحري ينسحب على ملفات أخرى من زاوية انّ المسألة مبدئية بالدرجة الأولى، فمَن يقبل التفاوض غير المباشر مع «الشيطان الأكبر» ودولة يسعى لإزالتها عن الخارطة، سيكون على استعداد لتكرار هذه المحاولة مع شرط أساس عدم خسارته ورقة قوته المتمثّلة بسلاحه ودوره، ويطمح السيد حسن نصرالله بالتأكيد لأن يكون الرئيس حافظ الأسد الجديد القادر على التفاوض مع الأميركيين، ولو بشكل غير مباشر، ومن دون ان يتنازل عن عقيدته، وأن ينتزع تفويضاً بإدارة لبنان على غرار التفويض الذي أُعطي للأسد.

أما على ضفة الرئيس ميشال عون فيعتبر انّ الترسيم يمنحه خروجاً مشرفاً من القصر الجمهوري بعد نكسات وخيبات وإخفاقات كثيرة في عهده وفي طليعتها الانهيار الكبير الذي انزلق إليه لبنان، وانّ العزلة التي أطبقت عليه بدءاً من منتصف عهده نجح بفكّها في الأيام الأخيرة من ولايته من خلال اتصال الرئيس الأميركي به مهنّئاً بإنجاز الترسيم، وانّ هذا التواصل سيُعيد تعبيد الجسور مع الأميركيين ويعزِّز فرَص النائب جبران باسيل الرئاسية.

فعدا عن المكسب المعنوي الذي سيروِّج له مُتكئاً على ذاكرة بعض الناس القصيرة التي تتوقّف أمام ما يحصل اليوم ولا تقوم بجردة ما حصل سابقاً، يعتبر ان الفيتو الأميركي على انتخاب باسيل رئيساً للجمهورية سقط مع الترسيم، لأنّ ما يهمّ واشنطن يَكمن في تأمين مصالحها في الشرق الأوسط، وانه عبر الترسيم أظهَر لها بأنه الأقدر على تحقيق هذه المهمة، فيما أيّ رئيس للجمهورية على خصومة مع «حزب الله» او لا وزن له لن يكون باستطاعته تحقيق أهداف أميركية أخرى، وبالتالي الحاجز أمام انتخاب باسيل سقطَ أميركياً، والمسألة مسألة وقت ليُعاد توفير الظروف المحلية لانتخابه من خلال تأليف حكومة تستوفي شروط العهد بإدخال وزراء يواصلون النهج المعتمد.

ويعتبر العهد انّ ورقتي الترسيم والتأليف كافيتان ليس فقط لخروج مشرِّف من القصر الجمهوري، إنما لمواصلة أيضا المعركة الرئاسية من موقع قوة لفريق سياسي اعتبر منذ العام 1988 الرئاسة الأولى هدفه الأول، وإذا كان قبل الترسيم متمسّكاً بهذا الهدف على رغم صعوبته الكبرى، فإنه بعد الترسيم سيزيد تمسّكه بهذا الهدف على رغم انّ هناك من يعتبر انّ نصرالله سيقنع عون بأنّ «المومِنتم» الحالي لا يسمح بانتخاب باسيل وأكثر من مُؤاتٍ لانتخاب رئيس للجمهورية تعزيزاً لعامل الثقة مع الأميركيين بعد الترسيم، باعتبار انّ ظروف انتخاب رئيس «التيار الوطني الحر» متعذرة، والفرصة مواتية لانتخاب الرئيس الذي يضمن فيه الحزب والعهد ولاية رئاسية تشكّل استمراراً لنفوذهما ولو عن طريق رئيس يوافق باسيل على انتخابه.

وبمعزل عن كل الاحتمالات والتشخيص أعلاه، فإنّ فريق السلطة سيحاول توظيف ملف الترسيم حتى حدّه الأقصى، خصوصاً ان هذا الفريق لا يأبه للمصلحة اللبنانية ويتطلّع حصراً إلى مصلحته المتصلة بنفوذه ومواصلة إمساكه بمفاصل السلطة، ولا يفيد بشيء التأكيد بأنّ اي ترسيم ينجزه لبنان يشكل مصلحة لبنانية، لأن الفريق الحاكم والمتحكّم يريد الاستفادة من عاملين أساسيين: فكّ العزلة الدولية عنه والتعامل معه كفريق براغماتي، والاستفادة من وَقع الترسيم على الأسواق وصولاً إلى استثمار الثروة النفطية خدمة لأغراضه السلطوية.

وقد لا يرتقي الترسيم إلى مستوى الانسحاب الإسرائيلي من لبنان وخروج الجيش السوري، ولكنه خطوة من طبيعة استراتيجية ستُطلق دينامية وطنية صراعية جديدة، وإذا كانت دينامية فريق السلطة واضحة المعالم لجهة توظيف هذا المُعطى الاستراتيجي بما يعزِّز سطوة الفريق الحاكم، فإنّ دينامية فريق المعارضة السيادي ما زالت غير واضحة لناحية كيفية قطع الطريق على اي مشروعية أميركية او غيرها يعمل فريق 8 آذار على انتزاعها مقابل الترسيم، كما قطع الطريق على اي محاولة لاستثمار الغاز بدءاً من العمولات عن طريق الشركات، وصولاً إلى الثروة الغازية، وفي حال لم يتم وضع تشريعات واضحة وسريعة وشفافة، فإنّ كارتيل النفط وبواخر الكهرباء وكل ملف الطاقة سيتمدّد على مستوى الغاز.

وإذا كانت المصلحة الأميركية واستطراداً الأوروبية والإسرائيلية تتطلّب الترسيم واستخراج الغاز، فإنّ المصلحة اللبنانية هي في الترسيم واستخراج الغاز أيضاً، ولكن في ظل سلطة سيادية وإصلاحية من أجل أن يعزِّز الغاز الوضع اللبناني بشقّيه: الاستقرار والازدهار، وليس ان يعزِّز وضعية المنظومة ودويلتها على حساب الدولة.
وبقدر ما انّ الترسيم هو إنجاز للبنان واللبنانيين، بقدر ما انّ خطورته تكمن في توظيفه من قبل المنظومة بهدف مزيد من الإمساك بمفاصل الدولة، وهذا ما يجب مواجهته والتصدي له بقوة وشراسة، لأنّ كل ما يعزِّز وضع المنظومة يضرّ بمصلحة لبنان.