تقفل واشنطن اليوم رسمياً ملف ترسيم الحدود البحرية بين لبنان واسرائيل، والذي شغلها بشكل كبير خلال الاسابيع الماضية، والواضح انّ إنجاز الترسيم البحري أدى الى اجواء ايجابية لدى الاميركيين بسبب التطورات المتسارعة والمعقدة للحرب الاوكرانية والسعي لتأمين فك ارتباط الدول الاوروبية بالغاز الروسي، ما يعني نجاح واشنطن في منع نشوء خارطة نفوذ جديدة في اوروبا تعطي روسيا موقعاً مؤثراً وأساسياً.
وبسبب أولوية الطاقة تسعى دول جنوب أوروبا الى تركيز اهتمامتها على المصادر البديلة إن في شمال أفريقيا أو عند شرق البحر الأبيض المتوسط.
ولذلك أيضاً سَعت ألمانيا المعنية الأولى بالإنفصال «الغازي» عن روسيا بالبحث عن حلول لدى دول الخليج، لكن هذا التحول أنتَج مناخاً جديداً سمح للسعودية باتخاذ خطوات اعتبرت تحدياً لإدارة جو بايدن، والتي تبدو على قاب قوسين من خسارة اغلبيتها في الكونغرس.
المهم انّ إقفال ملف الترسيم البحري في لبنان لن يعني الشروع في انجاز التسوية المطلوبة والتي ستؤمن انتخاب رئيس جديد للجمهورية. فالظروف ما تزال غير مهيأة وبحاجة لبعض الوقت، ما يعني انّ مدة مرحلة الشغور الرئاسي غير واضحة حتى الآن لذلك اندفع «حزب الله» وما يزال في اتجاه تأمين ولادة حكومية جديدة تحت ضغط اقتراب الوقت من النفاد. فالحزب الذي كان مطمئناً الى حدٍ ما باحتمال ولادة الحكومة، بعدما سمع تعهداً من الفريقين المعنيين اي الرئيس نجيب ميقاتي والنائب جبران باسيل بإنجاز الولادة الحكومية قبل انتهاء ولاية الرئيس ميشال عون، بَدا مستاءً من نتائج زيارة الرئيس ميقاتي الى قصر بعبدا، والتي لم تشهد اي حلحلة على المستوى الحكومي. فالرئيس ميقاتي ما زال متمسكاً بشروطه وهو يفضّل اعادة انتاج الحكومة نفسها من دون اي تعديل حتى، فيما النائب باسيل استمر على تمسّكه بالتغييرات التي يريدها مضافاً اليها احجام تكتله عن منح الثقة للحكومة، وهو ما اعتبر مخالفاً للمنطق.
ورغم ذلك بقي «حزب الله» مراهناً على «ايفاء» الوعد في الساعات الاخيرة للعهد كونه بحاجة لحكومة «كاملة المواصفات» في مرحلة الشغور الرئاسي.
لكنّ طرفي الصراع يحسبان لمصالحهما من زوايا مختلفة، ذلك انّ غالبية الوزراء بمَن فيهم عدد لا بأس به ممّن سمّاهم باسيل، باتوا أقرب لميقاتي بعد السلوك الذي مارَسه معهم باسيل والذي اعتبر مُهيناً بحقهم، ومن ثم طلبه الاستغناء عنهم وهذا ما سيجعل ميقاتي في موقع ممتاز على رأس حكومة متناغمة معه، ولو انه لن يدعو لِعقد جلسة لها الا في حالات الضرورة القصوى. وبالتالي، قد لا يجد ميقاتي مصلحة له في تعديل الحكومة.
امّا باسيل الذي يعيش هاجس تراجع التيار الوطني الحر على الساحة المسيحية وخصوصاً عند الفئة العمرية الشبابية، وهو ما تُثبته نتائج انتخابات الجامعات، فهو يميل الى خطاب غرائزي معارض، واعادة التهاب الساحة بصراع يأخذ طابعاً مسيحياً – اسلامياً، ما قد يعوّض له بعض خسائره الشعبية. وبالتالي فهو ايضا يميل الى عدم التفاهم حول الحكومة. اما «حزب الله» فيحسب بطريقة اخرى. فالواضح من عدة مؤشرات على الساحة بأن طابع الانتخابات الرئاسية المقبلة مختلف بالكامل مع طابع الانتخابات الرئاسية التي سبقت. فهنالك الخارطة السياسية الجديدة الجاري رسمها في الشرق الاوسط والتي لا يمكن تجاهلها او القفز فوقها، والتي أدّت الى مرونة لدى «حزب الله» تجاه ملف الترسيم البحري.
وبالتالي، فإن لبنان الذي يقع ساحله شرقي البحر المتوسط، مشمول بالخارطة السياسية المُعاد رسمها، ما يستوجب اعادة إرساء معادلات داخلية جديدة وازالة خطوط التماس الاقليمية الموجودة على ساحته والتي أُنشئت بقرار خارجي لعقود خَلت. واهمية الحكومة التي يسعى «حزب الله» لولادتها، بأنها تخفّف من اعباء الضغط الداخلي، وتجعله في موقع افضل لأخذ وقته في التفاوض عندما يحين، ما يسمح له بتَرف المناورة، وبالتالي تحقيق أقصى ما يمكن تحقيقه في المفاوضات خصوصاً انّ السعودية، والتي يزعجها كثيراً ملف اليمن، ستتولى دوراً اساسياً على الساحة اللبنانية كونها القادرة على اعادة استنهاض الاقتصاد اللبناني بعد انجاز التسوية.
وقد يكون «حزب الله» يراهن ايضاً على ان تؤدي فترة الشغور الرئاسي الى اعادة بعض الواقعية الى باسيل، وبالتالي تأمين حظوظ انتخاب سليمان فرنجية بعد «عَقلنة» شروط باسيل والرهان هنا على انّ شروط باسيل التعجيزية خلال «وجوده» في قصر بعبدا، من خلال الرئيس عون قد تغدو اكثر تواضعاً مع خروجه من القصر الرئاسي واعادة تَموضعه كفريق سياسي اساسي ولكن لا يمسك بالسلطة ومفاصلها. لكن التركيز الاساسي لـ»حزب الله» يبقى على التحركات الدولية والاقليمية.
حتى الآن لم تسجل تحركات دولية جدية باتجاه الملف الرئاسي وكل ما حصل جلسات معدودة لِجسّ النبض واستكشاف المواقف، وهو ما يعني بأن الظروف لم تنضج بعد وانّ الوقت لم يحن بعد. لأنّ الفرنسيين يركزون على الازمة الاوكرانية وتداعياتها، رغم انهم لا ينفكّون من التذكير بأن الملف اللبناني موجود ولكن فتحه ينتظر ظروفاً لم تكتمل بعد، وقد تكون الاجواء الاميركية هي المقصودة هنا والتي تنتظر اكتمال الاعصار الانتخابي وتداعياته على ملفات الشرق الاوسط. فباريس تُحاذر الدخول بتهور باتجاه الساحة اللبنانية بعدما اكتشف الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون متأخراً انّ التعقيدات اللبنانية لا تشبه غيرها، وأنه لا يجب الانخداع بالمواقف المعلنة للاطراف اللبنانية والتي تكون في العادة لطيفة ومرحّبة ولكنها تخفي الكثير من المَكر والباطنية.
هكذا حرق ماكرون أصابعه مرتين في الملف اللبناني، وهو ما يدفعه للتروي اكثر هذه المرة مع عدم التوغّل في الملف اللبناني من جديد من دون إسناد اميركي واضح وصريح وفعّال. وهذا ما أوقَع رئيس الجمهورية ميشال عون في خطأ التقدير عندما صدّق بأن ملف الترسيم البحري مع اسرائيل هو انجاز لبناني بحت وعَمل على استثماره داخلياً، وانطلق باتجاه دمشق لفتح ملف الترسيم البحري معها وبهدف مُراكمة استثماره الداخلي قبل مغادرته قصر بعبدا.
لكن عدا المآخذ السورية على الالتفاتة المتأخرة جداً باتجاه دمشق، الا انّ الظروف الاقليمية لم تكتمل بعد لفتح هذا الملف. ربما وجب الانتظار للعهد الجديد والتسويات التي ستواكبه، لفتح ملفّي الترسيم البحري والنازحين السوريين. وهنالك ما يتعلق ايضا بالتسوية للملف السوري والنازحين السوريين، اضافة الى اتّضاح التسوية في سوريا.
واستطراداً، صحيح ان الظروف الاقليمية والدولية لم تنضج بعد، لكن الاكيد بأن الملف اللبناني لن يجري وضعه جانباً. وللتذكير مرة جديدة فإن لبنان سيكون جزءا من الحل وليس ثمناً له. وتبدو الاشارات الدولية، والتي تؤكد بأن لبنان لن يكون منسياً، متلاحقة وعديدة واهمها:
1 – على الرغم من التداعيات الهائلة للحرب الاوكرانية على اوروبا، الا انّ اللقاء الذي جمع الرئيس الفرنسي بالبابا فرنسيس أفرَد وقتاً للبحث في الوضع في لبنان والسعي لعدم تركه ينزلق اكثر نحو الفوضى.
2 – لقاء وزيرة الخارجية الفرنسية كاترين كولونا بنظيرها الاميركي انطوني بلينكن وحيث نال الملف اللبناني حيّزاً واسعاً من النقاش.
3 – القمة الاميركية – الفرنسية على مستوى الرئيسين، والتي ستعقد في الاول من كانون الاول المقبل، والتي سيكون الملف اللبناني حاضراً بقوة فيها. وسيسبقها تواصل فاتيكاني مع الرئيس الاميركي حول ملفّي الحرب الاوكرانية والازمة اللبنانية.
4 – الاجتماع المقبل لمجلس الامن في 27 تشرين الثاني المقبل، والذي سيصدر عنه توصيات بعضها مخصّص للوضع في لبنان. ويجري العمل على اعداد تقرير مفصّل حول الوضع في لبنان، تمهيداً لرفعه الى الدول الاعضاء والاطلاع عليه.
5 – زيارة المنسقة الخاصة للامم المتحدة في لبنان يوانا فرونتسكا السعودية حيث التقت وزير الخارجية مطوّلاً في الموضوع اللبناني.
6 – مشاورات السفير السعودي في لبنان وليد البخاري مع مسؤولين في وزارة الخارجية الفرنسية حول الوضع في لبنان.
هي حركة دولية ناشطة تعني انّ الملف اللبناني موضوع على الطاولة، ولكن فتحه بحاجة لتوقيت مناسب لم يحن أوانه بعد.