تزامناً مع الخطوات الرسمية للمصادقة على تفاهم الترسيم البحري مع لبنان، بدأت الأجهزة الأمنية الإسرائيلية حملة مضادة لإبعاد صورة الخضوع لتهديدات حزب الله التي التصقت بإسرائيل وأجهزتها، علماً أن الجيش الإسرائيلي وبقية الأجهزة هي من تسبّبت في تشكّل هذه الصورة، عندما شددت في توصية قدّمها الجيش إلى المجلس الوزاري المصغر على أن «هناك ضرورة أمنية وسياسية للتوصل الى اتفاق قريب، ومن دون تأخير، لمنع تصعيد أمني متوقع باحتمالية عالية» (هآرتس 7/10/2022).
وفي مواجهة الحملات التي تشنها شرائح وشخصيات سياسية وإعلامية وأمنية ضد الاتفاق، واصفة إياه بأنه خضوع لحزب الله، قررت الأجهزة الأمنية خوض السجال السياسي والإعلامي بشكل مباشر. ويبدو أن الموساد وبقية الأجهزة الأمنية لم تجد ما تخفّف فيه من صورة الرضوخ أمام حزب الله لدى الرأي العام الإسرائيلي واللبناني والإقليمي، سوى نشر بعض الأدبيات المدروسة التي تستهدف بالدرجة الأولى الرأي العام الإسرائيلي، كجزء من حملة ستشهدها المرحلة المقبلة للحدّ من تداعيات نجاح حزب الله في ردع إسرائيل بمستوى غير مسبوق في تاريخ الصراع.
وفي هذا السياق، رأى رئيس الموساد ددي برنياع أمام المجلس الوزاري المصغر أن الاتفاق ليس جيداً لحزب الله. فيما رأى رئيس أركان جيش العدو أفيف كوخافي أن من يقول إن الاتفاق إنجاز لحزب الله «لا يفهم الوضع في لبنان».
وشدّد برنياع على أن الاتفاق يشكل «اعترافاً بإسرائيل بحكم الأمر الواقع»، مقرّاً في الوقت نفسه بأن حزب الله يعارض هذا الموقف الذي يبدو أن الموساد يراهن عليه لإيجاد شرخ بين المقاومة والدولة اللبنانية. وهو تعمّد الخلط بين التعامل مع الوقائع من موقع الرفض والمواجهة وبين منحها الشرعية والاعتراف بها. فلا مواجهة الواقع تعني تجاهل الوقائع، ولا يعني التعامل مع الوقائع بالضرورة منحها الشرعية. وفي كل الأحوال، فإنّ كل هذه الرهانات لن يطول الوقت قبل أن تتهاوى عند أول عمل مقاوم، عاجلاً كان أو آجلاً، عندما تفرض ذلك دينامية التطورات الميدانية والسياسية في لبنان والمنطقة.
وكان موقف رئيس الموساد مبتذلاً جداً عندما قرر استغباء الرأي العام في لبنان وفي كيان العدو بالقول إن حزب الله «تعامل بجدية عندما لاحظ أن الرأي العام في لبنان يدعم الاتفاق»، علماً أن مواقف حزب الله لا تزال حاضرة ولم يمرّ عليها الوقت. وأشار برنياع إلى أن حزب الله «لا يريد الاتفاق مع إسرائيل، لكنه فهم أنه على ضوء الأزمة السياسية الداخلية في لبنان لديه فرصة لكسب نقاط لدى الرأي العام». وهنا، يمكن تسجيل الملاحظات الآتية:
– إن حزب الله اتخذ خياراً كان يمكن أن يؤدي الى مواجهة عسكرية مع جيش العدو، بفعل المخاطر المحدقة بالشعب اللبناني نتيجة ما آل إليه الوضع المالي والاقتصادي. وانطلاقاً من اقتناع راسخ بأن الطريق الفعلي والوحيد للخلاص يكمن في تحرير الثروات الغازية والنفطية من الحظر الأميركي. ومن الطبيعي أن الجهة التي ستتعاطى رسمياً في هذا الملف هي الدولة اللبنانية. وليس الترسيم سوى مدخل الى انتزاع حرية التنقيب والاستخراج.
– على مستوى النتائج، من الطبيعي أن تتعزز صورة المقاومة لدى الرأي العام باعتبارها القوة التي شقت طريق الإنقاذ، والقادرة على حماية الثروات الطبيعية. وخطورة هذا الأمر بالنسبة إلى الموساد وكل الأجهزة أن هذه النتيجة تتعارض مع المخطط الذي يستهدف تصويرها كما لو أنها عبء على لبنان.
التوقيع تحت تهديد المسدس في الرأس: خضوع أم حكمة لتفادي المخاطر؟
بالتوازي مع حملة المؤسسة الأمنية الرسمية، شنت حركة «الأمنيين» في إسرائيل، والتي تتألف من حوالي 6000 ضابط رفيع من خريجي الجيش والاستخبارات والموساد والشاباك والشرطة، هجوماً عنيفاً على الاتفاق «الخطير»، ودعت الجمهور الإسرائيلي إلى التوقيع على عريضة ضده. وأجملت الحركة التي تضمّ في صفوفها ضباطاً كباراً خدموا في مناصب أمنية وعسكرية رؤيتها للاتفاق ومخاطره بأن «تراجع إسرائيل أمام تهديدات الابتزاز من قبل المنظمات الإرهابية بعد عقد على المفاوضات هو بمثابة خوّة لتأمين الحماية». ورأت أن هذا الأمر يشكل «خطراً هائلاً على أمننا وقدرة الردع الإسرائيلي». وتوقفت أيضاً عند مبرر تجنب الحرب الذي تستند إليه الحكومة والجيش في تأييد الاتفاق بالقول إن هذا التبرير «يمثل محاولة مؤسفة لشراء الهدوء على المدى القصير ومصدره الخوف من مواجهة مع منظمة تبتز دولة ذات سيادة».
الخلاصة الأهم أن هذا الانقسام الحاد بين السياسيين والأمنيين والإعلاميين في كيان العدو يشكل مؤشراً إضافياً وصريحاً على المسار الانحداري الذي تهاوت إليه إسرائيل، وعلى إدراك القيادة الإسرائيلية للتحوّل الذي استجدّ على معادلات القوة في مواجهة حزب الله. لذلك، فإن الصورة التي تسود في كيان العدو أن إسرائيل توقّع الاتفاق في الوقت الذي يوجّه فيها حزب الله مسدسه الى رأسها. ويختلف الإسرائيليون في تسمية ذلك: هل هو خضوع للتهديد، أم حكمة لتفادي المخاطر!