IMLebanon

تقاطع أميركي ـ سعوديّ – إيراني في بحر لبنان

 

شيء من الإصرار، تتعمّد المصادر الديبلوماسية في واشنطن إبراز نقطتين اساسيتين: الاولى تتعلق باعتماد الرئيس الاميركي جو بايدن، السعودية محطة أساسية خلال زيارته الجاري التحضير لها الى الشرق الاوسط. والثانية تتعلق بإبداء انطباعات سلبية تجاه ايران، ما يعني وضع ملف الاتفاق النووي جانباً، وبالتالي، الإبقاء على العقوبات. ومن الواضح وجود خيوط خفية تربط بين النقطتين.

فبالنسبة الى النقطة الاولى، لا تنكر هذه المصادر حصول انعطافة في الموقف السياسي لإدارة بايدن، ولهذه الانعطافة اسبابها الموجبة، والتي تعطي مرة جديدة مثالاً واضحاً على ما اصطلح على تسميته بالإسلوب الواقعي للسياسة الاميركية، او بتعبير آخر، تطويع الموقف الاميركي لمصلحة تأمين المصالح الاميركية، من خلال سياسة «برغماتية» ترتكز على المصلحة لا العاطفة.

 

فالحرب التي انفجرت في اوكرانيا شكّلت فرصة لواشنطن في وجه روسيا التي تعثرت حملتها العسكرية. لكن تفاهم الدول الغربية لإنجاز خطة تقضي بتطويق روسيا وفرض عقوبات عليها لاقتصاص قوتها الاقتصادية وضرب هيبتها العسكرية، ادّى الى ارتفاع قياسي في أسعار النفط، وهي الفرصة التي التقطها ولي العهد السعودي الامير محمد بن سلمان، برفضه رفع الانتاج لإراحة الاقتصاد الاميركي الذي يعاني من ارتفاع الاسعار وايضاً ارتفاع مستوى التضخم إلى مستويات خطرة، الّا بعد انتزاع مكاسب كبيرة. وبالتالي، فإنّ أحد اسباب تأجيل زيارة بايدن الى المنطقة لبضعة اسابيع، انما له علاقة بتأمين وضمان هذه المكاسب التي تطاول في بعض جوانبها تأمين المصالح الأمنية الحيوية لدول الخليج، كشرط أساسي لولادة الاتفاق النووي مع ايران.

 

وسعت إدارة بايدن الى انتزاع الضمانات الأمنية التي طلبتها السعودية ومعها دولة الامارات من ايران، التي رفضت ذلك. ويتردّد انّ مستشار الأمن القومي جاك سوليفان، نجح في دفع الرئيس الاميركي إلى تبنّي وجهة نظره القائلة بوجوب إلزام ايران بإعلان تعهّدها بوقف الاعمال العسكرية والأمنية، إن مباشرة او من خلال حلفائها، في ساحات المواجهة المشتعلة في اليمن والعراق وسوريا ولبنان، كشرط إلزامي لرفع الحرس الثوري عن لائحة التنظيمات الارهابية، وبالتالي عن لائحة العقوبات. ونجح سوليفان في تسويق رؤيته، أنّ الحرس الثوري قد يعمد غداً الى استهداف القوات الاميركية التي ستنفّذ انسحاباً جزئياً لقواتها من العراق، وهي مكشوفة الظهر، بذريعة الانتقام لقاسم سليماني، وهو ما يعني تلقّي الادارة الاميركية الديموقراطية ضربة هائلة، لا مثيل لها. وهذا ما جعل حجّة الفريق الاميركي الذي يفاوض ايران ضعيفة، والتي تقضي بإنجاز التوقيع سريعاً، لأنّ الوقت لا يعمل لمصلحة واشنطن. ونجح سوليفان ايضاً في دفع البيت الابيض الى تشديد الضغوط الاقتصادية على ايران، كسبيل للي ذراعها، على ان يترافق ذلك بمنح الطائرات الاسرائيلية معلومات الأقمار الصناعية حول الانتشار العسكري الايراني في سوريا لاستهدافه.

 

وفي وقت تعزز فيه التشاور والتنسيق بين سوليفان ونظيره الاسرائيلي، وأنتج رفع مستوى الأهداف الايرانية في سوريا، كانت عمليات الاغتيال لمسؤولين ايرانيين تتوالى. لكن البيت الابيض طلب من سوليفان ان يكون التنسيق مع اسرائيل قائماً تحت سقف الحذر من الانزلاق إلى حرب مفتوحة مع ايران، فهذا غير وارد بتاتاً في حسابات الادارة الاميركية.

 

وانطلاقاً من هذه النقطة، يعتقد بعض المراقبين انّ خطأ إيران هو في استهلاكها وقتاً طويلاً في مفاوضاتها، ما جعلها تدخل في مرحلة جديدة حساباتها مختلفة، ولو انّ هذه المرحلة ستكون مؤقتة، ذلك انّ الاتفاق النووي تريده واشنطن كما طهران، لكن لعبة تحسين ظروف التفاوض وتوظيف الوقت لمصلحة تحقيق أقصى ما يمكن من المكاسب، جعلت الحسابات تتبدّل نتيجة الظروف الدولية التي طرأت. لكن مرحلة الضغوط الحالية لن تعني تبدلاً استراتيجياً، وهي بطبيعة الحال لن تعني الانزلاق في اتجاه المواجهة المفتوحة. وثمة دليل آخر حول ذلك، فالاتحاد الاوروبي الذي نسج استراتيجية امتصاص قوة روسيا، وقرّر التوقف عن شراء الغاز منها، هو بأمسّ الحاجة إلى مصادر بديلة، وأحد هذه البدائل موجود من خلال الغاز البحري الموجود شرق البحر المتوسط. ومنذ مدة غير بعيدة انتهت أعمال بناء سفينة «اينرجي باور» في سنغافورة، وجرى الإعلان عن بدء إبحارها في اتجاه شاطئ شرق البحر المتوسط. وبالفعل باشرت قاطرتان نقل السفينة الى المياه الاسرائيلية لكي تبدأ مهمتها بإنتاج الغاز الطبيعي المسال وتصنيعه، لكي يتمّ تصديره الى اوروبا في الربع الثالث من السنة الحالية.

 

والتقديرات تشير الى انّ حقل «كاريش» يحتوي على 1,4 تريليون قدم مكعب من الغاز داخل منطقة متنازع عليها مع لبنان. لكن مهمّة المفاوض الاميركي آموس هوكشتاين لم تصل الى نتائجها المثمرة في لبنان. وعلى الرغم من انّه غادر لبنان متفائلاً في المرة الاخيرة، إلّا أنّ اي موقف مكتوب لم يصل الى واشنطن. وهذا ما عزز الشكوك لديه في أنّ ثمة مطالب جانبية، وهو الذي التقى سراً في المانيا النائب جبران باسيل، الذي طرح ملف العقوبات الاميركية عليه. يومها نصح المفاوض الاميركي باسيل باعتماد الآلية القضائية المعروفة لملف عقوباته، لأنّها السبيل الوحيد للبحث في هذا الملف.

 

لكن السؤال الاهم هنا يتعلق بالصمت اللبناني الذي رافق إبحار «اينرجي باور»، والذي كان علنياً. وهذا الصمت كان غريباً بعض الشيء، خصوصاً وانّ لـ»حزب الله» قدرة على منع وصول السفينة، وكذلك حركة «حماس» الفلسطينية، اضافة الى فصائل فلسطينية اخرى «تمون» عليها ايران، وقادرة على الخربطة امنياً. وهو ما يعني انّ ايران ايضاً لا تريد دفع المواجهة بينها وبين واشنطن واوروبا إلى مستويات متقدّمة. وبالتالي فإنّه يصح الاعتقاد أنّ المرحلة الضاغطة التي تظلّل المنطقة حالياً لا تعني الانزلاق في اتجاه المواجهة المباشرة والمفتوحة، حتى ولو تطلب الخطاب السياسي بعض السقوف المرتفعة.

 

فالجميع يتذكر الاعتراض الروسي حين أعلنت واشنطن وطهران، كلٌ على طريقته، الانتهاء من المفاوضات التقنية حول الملف النووي. يومها طار وزير الخارجية الايرانية على وجه السرعة الى موسكو لدفع الكرملين الى التراجع عن اعتراضه، وهو ما يعطي الدليل القاطع على الرغبة الفعلية لإيران بإنجاز الاتفاق ورفع العقوبات عنها وإعادة إنعاش اقتصادها.

 

وقد يكون الدافع نفسه لا يزال موجوداً الآن لدى ايران، على الرغم من لعبة عضّ الأصابع الجاري تنفيذها لدى اسرائيل والادارة الاميركية، على أعتاب سياسة اميركية جديدة في اتجاه السعودية ودول الخليج.

 

أضف الى ذلك، الواقع الحياتي والاقتصادي الكارثي الذي يخنق لبنان بكل فئاته، ما يجعله في موقع ضعيف تفاوضياً. فمنذ فترة قصيرة تمّ تجميد خطة نقل الغاز من مصر الى لبنان مروراً بالاردن وسوريا، وايضاً تزويد لبنان بالكهرباء الاردنية. وربط البعض بين هذا التجميد وبالتالي التوقف بالكامل عن إنتاج الطاقة، وبين مفاوضات الترسيم البحري.

 

الأسوأ والباعث على السخرية، انّ المسؤولين اللبنانيين صرّحوا إعلامياً أنّ الخط 29 هو خط تفاوضي، أي انّهم اسقطوا بأنفسهم وسلفاً أي قيمة تفاوضية لهذا الخط، لأنّ احداً لن يأخذ على محمل الجدّ هذا الطرح.

 

وفي الخلاصة، انّ «اينرجي باور» لن تفتح باب الحرب او المواجهة، بل ابواب التفاوض، في مرحلة عضّ الأصابع الإقليمية.