في اليوم الّذي تلا موافقة لبنان والكيان الإسرائيلي انتهى الانسداد السّياسيّ في العراق، وانتخب رئيس للجمهوريّة وعُيّن رئيس جديد للحكومة، وفي نفس اليوم الّذي تم فيه توقيع الاتّفاق نالت الحكومة العراقيّة الجديدة الثّقة، فيما يستمرّ الهدوء في اليمن رغم انتهاء موعد الهدنة بداية الشّهر الحاليّ.
ورغم ذلك، انقسم اللّبنانيّون المنقسّمون أساساً على كلّ شيء، ولم يكن متوقّعاً أن يتّفقوا على حدث، وصفه الرّئيس الأميركي «جو بايدن» بالتّاريخيّ، وكذلك فعل الوسيط «عاموس هوكستين».
ومبعث الانقسام سياسيّ لا وطنيّ، فمن منظور المصلحة الوطنيّة لا مجال للشّكّ في ضرورة توقيع ورقة التّفاهم على الحدود البحريّة، ولكن، برزت مفارقة غريبة عجيبة: دعاة التّطبيع، سرًّا وعلناً، يتّهمون أهل المقاومة بـ «الاعتراف» بالكيان الصّهيونيّ، بل التّطبيع معه.
ولكي يبقى الكلام في دائرة تشخيص المصلحة المفترضة من التّفاهم ودفع المفسدة من عدمه، وبكثير من الموضوعيّة نسجّل التّالي:
– حافظ لبنان على كامل مساحة 860 كلم (بين الخطّين 1 و23) والّتي صمد لأجلها الرّئيس نبيه برّي عشر سنوات أمام الضّغوطات الأميركيّة ولم يتنازل عن شبر واحد من الحدود المودعة لدى الأمم المتّحدة منذ العام 2011 وفق المرسوم 6433، وأنجز اتّفاق الإطار الّذي على أساسه بني تفاهم اليوم، رغم تجاوز بعض النّقاط المبدئيّة!
– نال لبنان كامل عائدات مكمن «صيدا-قانا» المفترض، بغضّ النّظر عن الكمّيّة الحقيقيّة، وبغضّ النّظر عن احتمال عدم وجود كمّيّة تجاريّة أصلاً، إنّما مبدأ الإصرار على شرط ونيله يعتبر انجازاً بحدّ ذاته.
– استطاع لبنان انتزاع تعهّد أميركيّ ببدء الحفر والتّنقيب في كامل البلوكات النّفطيّة، وهذا ما كان ممنوعاً منه، بقرار أميركيّ، منذ عشر سنوات وأكثر.
– فرضت المقاومة على العدوّ الإسرائيلي تأخير الاستخراج من حقل «كاريش» لمدّة شهرين كاملين، بعدما كانت حكومة العدوّ قد أعلنت نيّتها بدء الضّخّ بداية شهر أيلول الماضي، فأرسلت المسيّرات واضطرّ العدوّ للتّراجع بشكل واضح، ما أثار حفيظة المعارضة داخل الكيان واتّهام «لابيد» بالخوف والاستسلام لشروط حزب الله.
هذه بعض المكتسبات المادّيّة والمعنويّة الّتي لا يمكن لعاقل نقضها، في المقابل ثمّة ملاحظات مبدئيّة لا بدّ من الوقوف عندها:
– توقيع رئيس الجمهوريّة على الرّسالة: كان يمكن تجنّب هذه السّقطة المبدأيّة لاعتبارين اثنين:
– أوّلاً: إنّ مشاركة أيّ عضوّ مدنيّ في أيّ تفاهم، ولو غير مباشر، مع كيان العدوّ مرفوضة، وللتّذكير، فقد ثارت حفيظة ثنائي حركة أمل وحزب الله يوم استلم الرّئيس ميشال عون دفّة التّفاوض وضمّ مدنيين إلى الوفد العسكري، ما دعا الثّنائي إلى إصدار بيان اعتراض فجر الأربعاء 14/10/2020.. فكيف برئيس الجمهوريّة!
– ثانياً: كيف ارتضى الرّئيس عون أن يحلّ نزاع القوم على حساب توقيعه الخاص، وقد تنصّل كثيرون وتهرّب آخرون من وضع بصماتهم على ورقة ذكرت فيها عبارة «دولة إسرائيل» 27 مرّة! ثمّ لماذا هذا الغموض الّذي حُسم آخر لحظة، فيما نام اللّبنانيّون على احتمالات مختلفة لم يكن رئيس الجمهوريّة أحدها ولا أحدٌ برتبة وزير أو حتّى مدير عام.
– الحماسة المبالغ فيها: معلوم أنّ «يائير لابيد» يخوض معركة شرسة مع «بنيامين نتنياهو» المعارض للتّفاهم، وهو بحاجة إلى بيع الإسرائيليين أوهاماً تصل حدّ الزّعم بأنّ لبنان اعترف بكيانه، ولكن ليس مفهوماً ولا مقبولاً أن يستحضر نائب رئيس مجلس النّوّاب «إلياس بو صعب» اتفاقية «ابراهام» وهو يكيل المديح للوسيط المشكوك بنزاهته «هوكستين» وأن ينسب التّفاهم إليه ويسمّيه باسمه. هذه سقطة أخرى نرجو أن تكون زلّة لسان عابرة وليس آمالاً متوقّعة!
– التّفاهم أبقى على خطّ الطّفافات حسب وضعه الرّاهن، وترك مساحة 5 كلم بين أوّل نقطة انطلاق في البحر ورأس النّاقورة تحت سيطرة الاحتلال الإسرائيلي.
– التّفاهم نصّ على منع أيّ شركة لبنانيّة من دخول «الكونسورتيوم» المشغّل للبلوك رقم 9، وهذه علامة استفهام كبرى!
– التّفاهم نصّ على ضرورة الاتّفاق المسبق بين شركة «توتال» والكيان الصّهيونيّ قبل الشّروع بالعمل في مكمن قانا-صيدا!
أمّا ما يتعلّق بالضّجّة الّتي أثيرت حول الخطّ 29 وادّعاء أنّ لبنان تنازل عنه، وبمعزل عن صحّة هذا الادّعاء من عدمه، فالآليّة الّتي يطرحها أصحاب هذه النّظريّة تقضي بتعديل المرسوم 6433 وإيداعه لدى الأمم المتّحدة.
وإذا سألتهم عن مدى استعدادهم لتحمّل مخاطر خطوة كهذه، واحتمال اشتعال حرب لا أحد يعرف تبعاتها يسارعون إلى الهروب من المواجهة، ولو توهّماً، بالدّعوة إلى اعتماد الوسائل الدّيبلوماسيّة، وهم يعلمون بأنّ أصل المرسوم 6433 بقي 11 عاماً في أدراج الأمم المتّحدة ولم يطبّق لولا اندلاع الحرب في أوكرانيا وحاجة أميركا لتعويض أوروبا شيئاً من الغاز الّذي خسرته، ولولا تدخّل المقاومة في وقت حسّاس وحاسم فرض على الوسيط النّزاهة بجرأة الذّهاب بعيداً في حرب قد تكون أكثر إيلاماً على مصالحه من الحرب الرّوسيّة في أوكرانيا.
في الخلاصة، وبعيداً من منطق التّخوين والتّوهين، ومن منطق الشّعارات ذات السّقوف العالية، التّفاهم البحريّ هو «تفاهم الضّرورة» الّتيّ فرضته أزمة اقتصاديّة لا مخرج منها من دون اتّفاق مع الولايات المتّحدة، وإذا قال قائل بأنّ المقاومة استجابت للشّروط الأميركيّة نقول: المقاومة باقية على سلاحها وصواريخها الدّقيقة، ساندت الدّولة في تحصيل حقوقها وستبقى عامل التّوازن الضّامن للاستقرار والرّادع للعدوّ كي لا يستبيح حدودنا وحقوقنا كما يستبيح حقوق فلسطين وأرضها وماءها وسماءها!