IMLebanon

المارونية السيادية

 

إنها المارونية السيادية. سميت سياسية لمهاجمتها واعتبار أنها تحمل الكثير من النواقص ويجب القضاء عليها. الذين حاربوها إنما كانوا يحاربون أنفسهم من دون أن يدروا ويدمرون فكرة لبنان السيادة من دون أن يدروا، ليس لهدف إلا من قبيل إظهار الرغبة في التدمير لا في التعمير. تحت هذا العنوان ظُلم الموارنة وظُلم لبنان. تحمّل الموارنة أكثر من طاقتهم. فرضت عليهم حروب كثيرة كانت أقوى منهم. ومع ذلك لم يتهربوا من مسؤولية الدفاع عن الفكرة التي كان لهم الفضل في تكوينها قبل مئة عام، وهم يدرون ماذا يفعلون وإن كانوا لم يقدّروا حجم الأخطار التي تنتظرهم. جمال الفكرة وسحرها وحلم الكيان المستقل حجب عن عيونهم أن هذا الكيان يمكن أن يكون ساحة لتصفية الحسابات معهم.

 

قبل مئة عام

 

يروي المطران عبدالله خوري في يومياته التي عاشها إبان المفاوضات في باريس من أجل إنشاء دولة لبنان الكبير أنه في “يوم الأحد أول شباط 1920 برحنا هذا الصباح بكركي بأمر من غبطة السيد البطريرك قاصدين الذهاب للإنابة عنه، بصفته معتمد البلاد، ومعنا خط منه يعيّن إرسالنا إلى مؤتمر السلام في باريس وسبب ذلك، أنه لدى عودة غبطته من المؤتمر، ومعه كتابة جورج كليمنصو عاد الأمير فيصل يصرخ أن لبنان لا تتوسع حدوده، إنما يستقل عن سوريا. ولذلك قلقت الأفكار، وأمرنا غبطته بالذهاب نيابة عنه، ومعنا الشيخ يوسف الجميل وإميل إده والمير توفيق أرسلان. في 2 شباط ركبنا البحر مع رفاقنا بعد أن قابلنا الجنرال غورو… يوم الإثنين 10 شباط وصلنا إلى مرسيليا الساعة 3 بعد الظهر…”.

 

بعد سبعة اشهر من المشاركة في المفاوضات في باريس أعلن الجنرال غورو في بيروت من أمام قصر الصنوبر أول أيلول 1920 قيام دولة لبنان الكبير. في 16 أيلول يسجل المطران خوري: “تغدينا اليوم مع الأمير خليل أبو اللمع وزوجته عند الخواجا ميشال جبر في مرسيليا وبعد الظهر برحنا البلد على ظهر الباخرة Lotus التي أقلعت بنا قاصدة بيروت عن طريق مصر… الأحد 19 ايلول قدّسنا اليوم في البابور بحضور جمع غفير وكان المذبح مزيناً بالأعلام ومن جملتها العلم اللبناني فباركناه ووضعناه في صدر المكان حيث قدّسنا… اليوم (20 ايلول) وصلنا إلى الإسكندرية. فلما أطلينا على المدينة عند الصباح رفع العلم اللبناني على ساري الباخرة الكبير إشارة إلى وجود الوفد اللبناني عليها، ثم دخلنا الميناء…”

 

بين بطريرك وجنرال

 

صباح 25 أيلول وصلت الباخرة إلى بيروت وكان يرتفع على ساريتها أيضاً “العلم اللبناني الذي كان يخفق بأعلى الزينة”. في أول تشرين الأول تغدى المطران خوري في بكركي ثم غادر إلى الديمان للقاء البطريرك الياس الحويك الذي كان يراسله إلى باريس لإعطاء التوجيهات اللازمة، من أجل تثبيت حدود لبنان الكبير الذي عاصمته بيروت. في ذلك الـ”أيلول” إستقبل غبطته في الديمان الجنرال غورو. وخاطبه قائلاً: “إنك قد أعلنت، يا حضرة الجنرال، استقلال لبنان بحدوده الطبيعية، وأنت تدري كم كان فرحنا شديداً وامتناننا عظيماً. غير أن بوادر الأحوال تدل من مدة على أن هناك أخطاراً تهدد ذلك الإستقلال… أنا أنطق بلسان اللبنانيين عن بكرة أبيهم وأقول لك إنهم لأشد تشبثاً اليوم بالإستقلال منهم في كل زمان مضى… إن لبنان لم يرضخ يوماً لحكم أجنبي. إن جدودنا وآباءنا ما ارتضوا بهذه الجبال الجرداء ينزلونها معتصمين، إلا وهمهم الوحيد حماية حريتهم وحقوقهم فلا تصل إليها وإليهم يد الغزاة الفاتحين…”. أكثر من مرة قاطع الحضور البطريرك بالهتاف والتصفيق تأييداً. ولكن لم يدر في ذهن البطريرك و”شعبه” أن الإنجاز الذي تحقق لم يكن حلماً مشتركاً جامعاً ولم يكن قد أصبح ثابتاً في الواقع بعدما أصبح حبراً على الورق. على رغم التحذيرات الفرنسية وغير الفرنسية بقي البطريرك الياس الحويك مؤمناً بأن هذا اللبنان الذي يريده هو الكيان الذي سيكون جامعاً لكل اللبنانيين. كانت هناك نظرة شاملة واعية لأهمية الحدث ولكن في الوقت نفسه غير واعية لمخاطر تلك المغامرة. من روحية خطاب البطريرك ومن التصفيق له ولدت “المارونية السيادية” بينما كانت تولد في المقابل الإستعدادات للهجوم على “المارونية السياسية”.

 

إمتيازات للبنان

 

لم تكن الإمتيازات التي حصل عليها الموارنة قبل الإستقلال وبعده لحمايتهم الذاتية بقدر ما كانت لحماية لبنان الكيان الجديد. كان بإمكانهم أن يقبلوا بحدود المتصرفية مع بعض الإضافات وبالتالي ما كانوا ليحتاجوا إلى هذه الإمتيازات. ولكن ما اعتقدوه سبباً لشكرهم كان سبباً لمحاربتهم. أرادوا وطناً جامعاً للتعددية وأرادوا تنظيماً للطوائف وتقاسماً للسلطة في صورة حضارية ديموقراطية رائدة في تلك المرحلة في هذه المنطقة، بينما كان هناك من يريد أن ينزع منهم تلك السلطة. وأن يدمر ذلك الحلم، ليس لسبب، إلا لأنه لا يريد أن يكون لهم مكان داخل هذه السلطة.

 

على مدى خمسين عاماً أعطت المارونية السيادية دولة بكل ما للكلمة من معنى. أعطت ثورة في الفكر والمؤسسات والإبداع والجامعات والمدارس والتجارة والفن والمسرح والمشاريع والمصارف. بنت وطن الحلم الجميل الذي يتحدث الجميع عنه اليوم ويحنون إليه، بعدما عملوا على تدميره بحجة تدمير تلك المارونية السيادية.

 

في ظل تلك المارونية السيادية كان لبنان الديموقراطية الوحيدة في المنطقة. تلك التعددية منعت أن يكون فيه انقلاب عسكري كما حصل في مصر وسوريا والعراق وليبيا والسودان والجزائر واليمن. في ظل تلك المارونية السيادية اختلف الموارنة في ما بينهم واختلفوا مع “الآخر”. وبذلك المعنى من الخلافات والصراعات لم تكن المارونية السيادية تتألف من الموارنة وحدهم، ولم يكن “الآخر” يتألف من غير الموارنة كلهم. عندما يتم الإرتقاء إلى مستوى السيادية لا يعود هناك فرق بين المارونية السياسية أو السنية السياسية أو الشيعية السياسية. لأنه في الحقيقة والواقع يمكن للسيادة أن تجمع ما تفرقه السياسة. ربما هذا هو سبب العلة التي يعاني منها لبنان اليوم. لم تقم سيادية جديدة لتراث المارونية السيادية. وبهذا المعنى يحتاج لبنان اليوم إلى العودة إلى تلك الروح وإلى تلك “السيادية”. الذين حاربوا تلك المارونية السيادية لم يستطيعوا أن يأتوا بالبديل عنها. دمروا الوطن الحلم وراحوا يبحثون عن وطن ضائع لا يجدونه.

 

بين السياسة والسيادة

 

ذهب البطريرك الحويك إلى باريس مطالباً بلبنان الكبير وبعده ذهب المطران خوري. في طريق الذهاب لم يكن هناك علم للبنان على متن الباخرة. في طريق العودة ارتفع العلم اللبناني عالياً على السارية. كان علما لكل لبنان وليس للموارنة. كان مفترضاً أن يبقى رمز السيادة لا مجرد قطعة قماش في ملعب السياسة. بعد مئة عام على إعلان لبنان الكبير يحتاج لبنان اليوم المنقسم والمنهار والمتداعي إلى العودة إلى تلك الروح التي كانت السباقة في بناء ذلك الحلم. يحتاج إلى أن تكون المارونية السيادية مسألة جامعة وشاملة فوق السياسة والإنقسامات والخلافات والمشاريع الخاصة. لأنه إذا لم تستطع أن تكون جميلاً فلا تسعَ إلى تدمير كل ما هو جميل. ولأن لبنان لم يكن مشروعاً خاصاً للموارنة ولا هم أرادوه كذلك عندما كان بإمكانهم أن يفعلوا ولم يفعلوا.