ثلاثة أمور جعلتني أرجئ الكلام موقتاً عن مواقف القوى الأخرى من الدولة واستبقني عند القوى المسيحية، التنافس الكراتيني بين “القوات” و”حزب الله”، والتعليقات على مقالتي عن لبنان الصغير كخطأ شائع، والثالث والأهم حرصنا نحن المواطنين أنصار مشروع الدولة على تعزيز الوجود المسيحي في لبنان وخوفنا عليه من التعصب الطائفي على أنواعه ومن التعصب العلماني أيضاً.
من الياس الحويك إلى بشارة الراعي، البطركية المارونية هي المدافع عن لبنان وليس فقط عن المسيحيين أو عن الموارنة. أما مسار السياسيين من ميشال شيحا إلى ميشال عون فليس مشابهاً. المؤسسون المسيحيون، سياسيين وروحيين رأوا أن حماية المسيحيين من حماية لبنان وسيادة الدولة. كل أزماتنا المتناسلة متحدرة من انتهاك سيادة الدولة. لا يجدي البحث عمن افتتح ورشة التخريب ولا عمن كان أكثر إمعاناً. لنقل إن الحرب الأهلية تمثل ذروة الخروج على تعاليم الأوائل وأن الخروج من أدواتها ومن أفكارها ومن ثقافتها هو بداية الحل.
بعض المتعصبين مسيحياً يستعيدون الكلام عن لبنان الصغير ولبنان الكبير، فيجعلون الوطن صناعة مسيحية ومنّة من البطركية على سائر اللبنانيين. مثل هذا الكلام لا يفهم على حقيقته في سياق التوتر الراهن، بل يزيد الطين بلة ويشحن النفوس الطائفية، لأنه من عدة الحرب لا من عدة السلم والتعايش والشراكة التي يدعو لها صاحب الغبطة، والتي دعا إلى تعزيزها الإرشاد الرسولي. إن الدور الوطني للبطركية ليس محل شك من أحد. منذ أشهر قلت إن البطرك الراعي، بتصريحاته وعظاته الرائعة، يمثلني في قيادة الثورة. مع أن لغة المجاز في كلامي واضحة، اعترض التعصب العلماني من باب الاحتجاج على تدخل رجال الدين في السياسة فأساء إلى غبطته مثلما يسيء إليه تعصب طائفي مسيحي أو إسلامي.
استحضار عبارة أهل الذمة يشوّه دور المسيحيين في بناء النهضة اللبنانية والعربية. لبنان اليوم ليس ولايات ذلك الزمان السلطاني أو العباسي أو الأموي أو المملوكي. والمبتلي بالأصوليات الإسلامية من داعش وأشباهها هم كل اللبنانيين مسلمين ومسيحيين، ولا تداوى الأصولية بأصولية مضادة. لا حل إلا بالدولة ومفردة أهل الذمة هي من ماض مضى يوم لم يكن المسيحيون وحدهم أهل ذمة بل كل ضحايا الاستبداد القرسطي أي كل الأقليات في الولايات اللبنانية.
الكلام عن الفدرالية والكونفدرالية له معنى سياسي واحد، العين بالعين والسن بالسن والغيتو بالغيتو. الوطن ليس غيتوات مضمومة. ولبنان ليس حاصل جمع تراكمي للطوائف. التنوع الطائفي ثروة إلا حين تختار الطائفة الانعزال. ارتكبت المارونية السياسية بحق المسيحيين ما ترتكبه الشيعية السياسية بحق الشيعة. قوة كل طائفة بانصهارها في الكيان الوطني لا في تنافسها على بناء أسوار من التعصب وكره الآخر. لا حل إلا بالدولة. والغيتوات خروج على منطق الدولة واستحضار لنظام الملل العثماني. لم ينس اللبنانيون بعد أن أكثر المعارك تدميراً هي تلك التي اندلعت داخل الغيتو المسيحي بين عون والقوات وداخل الغيتو الشيعي بين أمل و”حزب الله”. الاستبداد لا دين له وعلاجه بالديموقراطية لا بالتعصب الديني. وهو لا يقاس بمساحة الجغرافيا. ففي الولاية أو على امتداد الأمة هو يعني إلغاء الآخر، أنا أو لا أحد. انظر حولك تجد في كل زاوية من يقول أنا أو لا أحد.
التيار الوطني الحر مسؤول عن بعث المارونية السياسية بنسخة جديدة، لكنها ككل تكرار نسخة على شكل مهزلة. وأحزاب أخرى لا تقصد المنافسة على بعثها فإن استخدامها العدة ذاتها لن يفضي عملها إلى نتيجة مغايرة.