رغم القحط السياسي، تستمر النقاشات المسيحية حول ثلاث قضايا مصيرية: الشغور الرئاسي، والحكومة، والحوار السني ـــ الشيعي، فيما باتت الأخطاء المسيحية مميتة إلى حد وضع الطائفة ككل في خطر وجودي ومصيري
لا يمكن فصل ترؤس البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي جنازة الكبيرين صباح وسعيد عقل في كنيسة مار جرجس للموارنة في وسط بيروت، عن حالة مارونية سياسية عامة. لا شك في أن خطوة الراعي، التي تكاد تكون نادرة بصوابيتها منذ اعتلى السدة البطريركية، تعبّر عن ذلك الشعور المسيحي الماروني بأن هناك أمراً جوهرياً يذوب تدريجاً إلى حد التلاشي. هو النعي الرسمي لدولة لبنان الكبير (ونتاج القرن العشرين) التي أسهم الموارنة في تأسيسها، وصولاً إلى جمهورية الطائف التي يحاول البعض التخلي عنها.
ولم يكن عابراً ما قاله النائب السابق فارس سعيد “يموت مع صباح جزء من أصالة الجبل وقيمه وتقاليده”. هو الجبل عينه الذي عرف حرباً وتهجيراً، والذي يتقوقع على نفسه فيكاد يضيق بمن فيه وبالنازحين السوريين، وهو الجبل الذي بات يمتد من جزين إلى زغرتا وزحلة، مروراً بأقضية جبل لبنان المسيحي المحفوف بشعور الخطر الدائم.
وليس تفصيلاً أن تحتضن جامعة اللويزة إرث سعيد عقل وجثمانه، في استذكار لمرحلة الوعي المسيحي السياسي الذي ارتبط قبل الحرب وبعدها بالكنيسة. في اللاوعي الماروني، لا تدفن حقبة سياسية فحسب، بل استعداد لوداع المستقبل. ففي زمن القحط السياسي الماروني والمسيحي، طغى وداع سعيد عقل وصباح، اللذين حرما الوسام بسبب الشغور الرئاسي، على الحدث السياسي الذي يغيب عنه المسيحيون، خلال نقاشات سياسية عن الدور الماضي والوضع الحالي وسط غياب المؤشرات الفعلية لقيام تعبئة داخلية تواجه الخطر الذي يحدق بلبنان وبالطائفة المارونية.
ينقسم النقاش إلى ثلاثة محاور: رئاسة الجمهورية والوضع الحكومي والحوار بين حزب الله وتيار المستقبل.
في النقطة الأولى: يتركز الحوار حول عدم وعي المسيحيين جدياً لمعنى غياب رئيس الجمهورية، للمرة الثانية في السنوات الست الأخيرة. وخطورة التراخي في التعاطي مع هذا الغياب تتعدى التنافس السياسي بين القيادات المارونية حول الرئاسة،
الفراغ الرئاسي بدأ يمسّ بجوهر الوجود المسيحي في النظام السياسي اللبناني
لتتناول الوعي الجماعي المسيحي في تعاطيه مع هذا الغياب. فالانكفاء المسيحي عن الدولة عام ١٩٩٢، لا يزال يحفر في الإدارة والمؤسسات الرسمية، بعد ٢٢ عاماً، فكيف الحال والشغور يطاول المركز المسيحي الأول والوحيد في عالم عربي يتغير على وقع تجذّر تنظيم “الدولة الإسلامية” في عقول الطبقة الشعبية، مهما بالغت أنظمة عربية في نفي عمق هذه الظاهرة. هناك تسليم واقعي بأن لا رئاسة للبنان في المدى المنظور، لكنّ هناك أيضاً تسليماً بأن القيادات المسيحية، والموارنة ككل، وأداء المجتمع المسيحي ومؤسساته الكنسية والسياسية، ليست كلها على قدر هذا الفراغ الذي باتت إدارات دولية تتعاطى معه كأمر واقع. لم نشهد حركة مسيحية على مستوى عواصم القرار تتحرك للدفع لانتخاب رئيس للجمهورية، ولم نلحظ استنفاراً كنسياً عالياً للضغط في الاتجاه ذاته. فكلمات الإدانة والاستنكار لم تعد كافية. الفراغ الرئاسي يحتاج خطة عمل تُخرج الانتخابات من الثنائيات الداخلية، ومن تقاسم الحصص ومن التعنّت في المواقف من أجل الضغط لانتخاب رئيس، لأن هذا الفراغ بدأ يمسّ بجوهر الوجود المسيحي في النظام السياسي اللبناني.
في النقطة الثانية أسوأ ما خلقه الشغور الرئاسي حين شكلت الحكومة، أن الوزراء المسيحيين فرضوا أنفسهم ممثلين للمسيحيين. لكن أين الوزراء المسيحيون في الحكومة وأي إيقاع فرضوا، عدا بدعة تواقيعهم على المراسيم حفاظاً على موقع رئاسة الجمهورية. في الأمن الغذائي لا يوجد سوى الوزير وائل أبو فاعور، وأيضاً لفتح الطرق التي أقفلها أهالي العسكريين، وللتفاوض معهم ولحل مشكلات بالجملة والمفرق. في الحكومة 12 وزيراً مسيحياً يفترض أنهم يمثلون المسيحيين. بعد عشرة أشهر على قيام الحكومة، ماذا أنجز هؤلاء؟ خلا أن اثنين منهم لا يزالان يعتبران أنهما يمثلان الرئيس السابق ميشال سليمان، وأن وزير الخارجية جبران باسيل يتفرد بجولاته التي لا تحصى ولا تعد، أين وزراء ١٤ آذار في الحكومة جميعهم من دون استثناء، وماذا أنجزوا مسيحياً في حكومة التوافق الوطني؟ ولماذا لا نسمع وزير المردة روني عريجي الذي راهن عليه البعض وهو الآتي من بيئة مثقفة ومن خلفية زغرتا السياسية. هل يمكن أن تطغى رغبة رئيس تيار المردة سليمان فرنجية بالابتعاد عن الخلاف مع العماد ميشال عون، حتى لا نسمع صوت المردة في الحكومة؟
في النقطة الثالثة: أين المسيحيون من حوار حزب الله والمستقبل، وهو أبعد من تحالف رباعي؟ ثمة محاذير أساسية تكمن في أن المسيحيين اليوم أمام خيارين: إما أن يختاروا مشروعاً مسيحياً صافياً ينقادون وراءه، وإما أن يختاروا مشروعاً لبنانياً يكون المسيحيون جزءاً منه، ويصبح الحل تالياً لبنانياً ينصف اللبنانيين، والمسيحيون من ضمنهم. المشكلة أن مكوناً أساسياً اسمه ١٤ آذار اختار الطريق الثاني، لكن بعد عشرة أعوام على هذا الاختيار، لا تبدو التجربة مشجعة، ما دام الشريك السني تخلى، ولا يزال، عن المسيحيين كحلفاء في أكثر من محطة أساسية. ورغم ذلك، لا يزال المدافعون عن هذه الفكرة متمسكين بلبنانية المشروع. المشكلة الثانية هي أن الحوار السني ـــ الشيعي الضروري يلغي وجود مكون مسيحي هو ليس جزءاً من المشكلة، لكنه حكماً جزء من الحل الذي يخشى أن يكون على حسابه. إلا أن طرفي الحوار مشغولان بصراعهما التاريخي، إلى الحد الذي لا يمكن معه أن يلحظا أن الشريك الثالث غير موجود على طاولة حوارهما. علماً بأن الحوار تقزّم من حوار وطني بدأ من ساحة النجمة وقصر بعبدا وعاد إلى مقر الرئاسة الثانية في عين التينة، إلى حوار يقتصر على طرفين فقط.
قد لا يقع الخطأ هذه المرة على السنّة والشيعة. لعله حان الوقت لأن يعترف المسيحيون والموارنة، بلا مكابرة ، وبلا رمي المسؤولية على الآخرين، بأن أخطاءهم باتت مميتة لأنها تضع الطائفة ككل في خطر وجودي ومصيري. وهذا يعني أنها تضع لبنان في خطر.