كان الموارنة دائماً مستقلّي الصوت والإرادة والحركة حتى لو اقتضى الأمر أن يتحصّنوا في المغاور والمخابئ، وحتى لو اضطُهدوا في حياتهم وإيمانهم. هدفهم أن يظلّ قرارهم حراً وأن يبقوا أسيادَ أنفسهم.
هذه العلاقة الوثيقة بين الموارنة والحرّية لم تتغيّر، لكنّ بينهما ثوابت تاريخية عديدة ربما يعيد إلقاء الضوء عليها الثقة والأمل إلى نفوس الضعفاء. الآباء والأجداد عاشوا في ظروف أصعب بكثير، وعلى رغم كلّ شيء ظلّوا متمسكين بإيمانهم وبأرضهم. أين نحن اليوم من إيمان الأجداد؟ وهل نحن على صورتهم ومثالهم؟
أبناء قديس ناسك
الموارنة هم أبناء قديس ناسك، وتلك هي الثابتة الأولى والأساسية في مسيرتهم التاريخية. هم لا يكتفون بذكره في المناسبات، إنما يشعرون به في ذواتهم العميقة، ويشعرون بحنين إلى طريقة عيشه، ويتمظهر ذلك، على درجات متفاوتة، بنهج نسكيّ ملموس ومتميّز ببساطة العيش وسهولته في كلّ المجالات… وليس ببعيد أمثلة حيّة تتجسّد بقديسيهم الذين عاشوا منذ قرن أو أكثر كشربل مخلوف ونعمة الله كساب الحرديني ورفقا الريس واسطفان نعمة وغيرهم على طريق القداسة. هؤلاء وُلدوا من شعب حيّ، لا سياسة له محدَّدة في أطر معيّنة، إنما شعب حيّ وُلِدَت فيه الحرّية ويتوق إلى المطلق.
هكذا كان مارون وما تبعه من قديسين شاهدين للمطلق في واقع الأرض، يحيون كلمة الله بطريقة عيش خاصة بهم. فالموارنة ليسوا حزباً، ولا مذهباً، ولا فريقاً سياسياً، بل هم كنيسة إلهية وإنسانية في آن واحد. إنها إلهية لأنها لم تؤسس بمبادرة بشرية، بل أرادها الله علامة حسّية لحبّه اللامتناهي للبشر، وهي إنسانية لأنها تتألف من أشخاص يؤمنون بهذا الحب الإلهي، ويعملون على العيش فيه، والشهادة له في حياتهم اليومية.
لذلك، كان الموارنة ملتزمون دائماً معادلة المطلق والواقع، فهم أدركوا أنهم من طينة هذا الشرق أرضاً وشعوباً وثقافات، إلّا أنهم أعلنوا في الوقت ذاته، أنهم غير مقيّدين بهذا الواقع وغير خاضعين له، فسعوا دائماً إلى الارتقاء نحو وجه الله المتجلّي وهو يحاكي الإنسان في يوميات تاريخه.
يعيش الموارنة أحراراً في جوهر وجودهم وفي كينونة ذاتهم لأنهم يحيون بنوّة الله، وتنبع حريّتهم من إيمانهم بالله المتجسّد. والحرّية هذه ليست تفلّتاً من واقع، ولا رغبة في قرارات ذاتية، حرّية الموارنة تكمن في مسؤولية قبلوا تحمّلها، ويقبلونها اليوم، في أن يكشفوا لأبناء الشرق صورة الله الآب المحب.
ليست حرّية الموارنة في أن يصبحوا شعباً منعزلاً في ذاته، متقوقعاً في أطره الثقافية، محافظاً على مكتسباته أرضاً وسلطة ومقتنيات، حرّية الموارنة مرادفة لمسؤولية أُنيطت بهم، مسؤولية رسالة أوكلها اليهم الرب يسوع، وحملها بصدق مارون الناسك.
لبنان موطن ووطن
بعيد تكوين الموارنة في جماعة كَنَسيّة مميّزة في دير مار مارون قرب نهر العاصي وجواره، وبسبب خلافاتهم العقائدية مع إخوان لهم في الايمان، وتعرضهم للمضايقات والاضطهاد، لجأ قسمٌ منهم، لا نعرف نسبته، إلى لبنان، حيث تآخوا مع مسيحيين ومواطنين محلّيين، واتخذوه موطناً لهم واستقروا في بعض مناطقه المناسبة لهم. هكذا، أخذ الموارنة يتحوّلون، منذ أواخر الجيل الثامن، إلى كنيسة محلّية رسمية باعتراف المرجعيات الكَنَسية والمدنية القائمة عهدذاك.
وتمرّ أعوام وأجيال مظلمة حتى العهد العثماني، حيث يعود لبنان إلى الظهور بفئات شعبه، ومن بينها، الموارنة الذين كانوا في مقدمها أو أقلّه، في معيّة الساعين إلى تحويل لبنان من موطن لهم ولإخوانهم إلى وطن حرّ ومستقل…وقد أتيح لهم، لوضعهم الخاص، القيام بالدور الرائد في هذا المجال، عندما تحقّق المسعى ونَعِمَ لبنان بالاستقلال في النصف الأول من القرن العشرين، أعطي للموارنة أن يكونوا في مقدّمة المسؤولين عن الحكم فيه.
هذا اللبنان الذي كان الموارنة أبرز خالقي فكرته لم يتغيّر، من حيث هو مساحة روحيّة، وبيئة جغرافية لها إنسانها، بالطبع تغيّر تخطيطه وشكله السياسي، لكنّ مساحته الروحية بقيت على مداها حيث يتشبث الماروني، على رغم كلّ قواهر الحياة، بمواقف معنوية، يريد أن ينتزع لها تعبيراً في وجوده، من دون أن يهتمّ بتسميتها قِيَماً.
هذا التشبّث الماروني العنيد استمرّ على مدار التاريخ. ولم يتكوّن الكيانُ اللبناني إلّا بفضل تراكمات العناد الزاخرة بالأحداث. إنه الماروني اللبناني-الضمير اللبناني. علماً أنه يصعب الفصل بين الانتماء الديني لدى الماروني وبين انتمائه اللبناني بالهوية أو، أقلّه، بالعاطفة! لقد حدث هذا الدمج عبر التاريخ، فلم يوجد تعاكس بين الانتماء الديني وبين الانتماء اللبناني لدى كلِّ ماروني صادق.
ذاتيّة حضاريّة متميّزة
أعطى الموارنة لبنان ذاتيّة حضاريّة متميّزة جعلته مختلفاً عن البلدان المجاورة له أو عن البلدان القائمة في منطقة الشرق الأوسط. وقد لعب الموارنة الدور الرائد في تسبّب هذا التميّز وفي تغذيته وتوطيده. فأيّ معلم من معالم لبنان الحديث الحضارية لا يدين للموارنة بوجوده، أو أقلّه، بكيفيّة من كيفيّات وجوده.
تلك الحقيقة مرتبطة بالإنسان الماروني، انه فرد حرّ – غاية وجوده أن يمارس حرّيته، أن يعيشها- وأن يمتلئ من الحياة، ويقضي عمره ينتزع الحرّية، يستبقيها، يحافظ عليها، ومساعيه كلّها طوال مرحلة وجوده، قبل أن يبدأ بالتهام العلم بسرعة، إلى أن يذهب ليتاجر بالعينيّات التي انتزعها، وهو يغامر، أو يناضل، وهو يكدّس المال، وهو يقاوم بالسلاح وينشر الثقافة، مساعيه كلّها أن تتوافر له المقوّمات التي تسهّل له ممارسة الحرّية.
أما اليوم فيُطلب من الموارنة حماية مساحة الحرّية التي ميّزت لبنان عن الدولة الأخرى من خلال استنباط لاهوت سياسي مجتمعي كياني يستلهم تاريخهم النضالي المقاوم، لاهوت يعيد القِيَم المسيحية إلى أرضهم، إلى حياة الأفراد، إلى المؤسسات.
لاهوت يجعل المسيح معهم في صلواتهم وأعمالهم، في تشريعاتهم وممارساتهم، في أفكارهم وإعلامهم واقتصادهم وتربيتهم وسياساتهم. مطلوب لاهوت جديد يعيد إلى الماروني حقه ودوره، فيمنحه الديناميّة والفاعليّة في هذا الزمن بالذات لإستعادة الجمهورية ورئاستها حتى تكون قولاً وفعلاً مساحة حرّية لكلّ الشركاء في الوطن، وإذا كان الجميع متفقاً على أنّ رئاسة الدولة للموارنة، فحري أن يتسلّم مقاليدها كبير منها، غير محسوب عليها، كبير وشجاع إلى حدود إحساس الموارنة بالمسؤولية معه عن أيّ قرار يتخذه، وبالفخر به وبقراره. ألا يستحق ذلك لاهوتاً ثوروياً سعياً إلى استرداد مجد ضائع؟