يُحيي الموارنة ولبنان اليوم عيد مار مارون، وستترافق القداديس مع عظات للكهنة تعود إلى الجذور وتُركّز على نسكيّة شفيع الطائفة المؤسِّسة للبنان وقداسته. وطبعاً سيتناول الكهنة والمطارنة الموارنة النضال التاريخي للآباء والأجداد، وكيف قاوموا السلاطين والإمبراطوريات كي لا يعيشوا أهل ذمّة، وليكون لديهم بلد إسمه لبنان يعيشون فيه بحرّية وكرامة.
يحتفل البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي بقداس مار مارون في كاتدرائية مار جرجس في بيروت بغياب الرأس الماروني للجمهورية، ويحمل الراعي همّ واقع تفتيت الكيان اللبناني وإفراغ المؤسسات وخطر نشوب حرب في الجنوب وتغيير هوية لبنان، وإذا كان قدّاس بيروت سيحصل في حضور أركان الدولة والقيادات المسيحية، وسيركّز على الأخطار السياسية الكبرى، إلا أنّ خطر تمدّد النازحين وتغلغلهم في كل لبنان، هو خطر ديموغرافي داهم يجب أن تتنبه إليه القيادات الدينية والسياسية والشعب على حدّ سواء. ولا تتعلّق الأمور بـ»الندب» على الدور، بل بالخوف على الوجود وسط تعمّق الأزمة والهجرة المسيحية، وإذا كان التحليل السياسي «ساعة يصيب وساعة يخيب»، إلا أنّ الأرقام هي التي تتحدّث في نهاية المطاف.
أرقام المسيحيين والمسلمين
وتكشف أرقام «الدوليّة للمعلومات» أنّ عدد المسلمين اللبنانيين يبلغ ثلاثة ملايين وتسعمئة وستين ألف نسمة، وعدد المسيحيين اللبنانيين يبلغ مليوناً وسبعمئة وتسعة وأربعين ألفاً وتسعمئة وست وستين نسمة بحسب اللوائح الإنتخابيّة. وتبلغ نسبة المسيحيين من إجمالي عدد السكان 30،62 في المئة في حين تبلغ عند المسلمين 69،29 في المئة، وتدخل ضمن هذه الأرقام أعداد المهاجرين حديثاً الذين ما زالوا على لوائح الشطب.
وإذا كانت هذه الأرقام تدل على الواقع الديموغرافي الصعب، الذي نشأ نتيجة الحروب والهجرة والتغييرات الإجتماعية، والذي يمنع الزواج المبكر عند المسيحيين وخفض معدّل الإنجاب، إضافة إلى الأزمة الإقتصادية، إلّا أنّ هناك واقعاً آخر قبِل به بعض الموارنة، بل يتمسّك قسم كبير منهم به، وهو التغيير الديموغرافي الناتج من انفلاش النازحين السوريين في الجبال والمدن المارونية، وذلك لتحقيق ربح مادي سريع.
وتكشف الأرقام الصادمة التي تكوّنت نتيجة إحصاءات رسمية وأخرى قامت بها السلطات المحلية، كيف أنّ البلدات والأقضية التي كانت إنطلاقة للمارونية وعرينها الأول صار عدد القاطنين فيها من السوريين يفوق عدد اللبنانيين القاطنين، ما غيّر طبيعة هذه المناطق، وهؤلاء السوريون لا يسكنون بالقوة، بل هناك من أمّن لهم بيئة حاضنة وحاول الإستفادة منهم.
ولا بدّ من الإشارة إلى أنّ أعداد اللبنانيين المسجّلين في دوائر نفوس أي قضاء أو على لوائح الشطب لا تعني سكن هؤلاء في منطقتهم، وأغلبيتهم إما مهاجرة أو تقطن في بيروت والضواحي الشرقية وتزور بلداتها آخر الأسبوع.
الشمال المسيحي يعاني
البداية من قضاء البترون الذي شكّل انطلاقة المارونية وفيه بدأت مسيرة بناء الكيان الماروني، وأسّس البطريرك الأول للموارنة مار يوحنا مارون البطريركية وجعل مركزها بلدة كفرحي، وفي هذه المنطقة حصلت معارك تثبيت الكيان ومن ضمنها معركة وادي حربا الشهيرة. وحسب الإحصاءات الأخيرة يقطن في قضاء البترون بشكل دائم 37 ألف بتروني ولبناني بينما هناك حوالى 40 ألف نازح سوري يتمركزون في كل القضاء ونقطة تجمّعهم الكبرى هي في مثلث بساتين العصي – كفرحلدا – بيت شلالا.
ولا يختلف الوضع في قضاء زغرتا عن البترون، فزغرتا الزاوية كانت حجر زاوية في الصمود الماروني على مرّ التاريخ وأحد أهم أعمدة الجبّة المارونية الممتدة من المنيطرة مروراً بتنورين وصولاً إلى بشرّي وإهدن. ويعاني قضاء زغرتا من إنفلاش سوري غير مسبوق، وتشير الإحصاءات إلى وجود نحو 62 ألف نازح سوري، أي ما يوازي عدد الزغرتاويين الموجودين هناك، ولا يوجد من يتحرّك لضبط هذا الإجتياح الديموغرافي.
الجبل يكتظ
ونجح قضاء بشرّي في ضبط الوجود السوري الذي بلغ 8000 سوري معظمهم من العمال، لكن قضاء الكورة ذا الصبغة الأرثوذكسية فيقطنه نحو 30 ألف نازح والرقم يتزايد، فيما يقطن في كسروان، عاصمة الموارنة، نحو 50 ألف سوري، في حين تخطّى الرقم مئة وخمسين ألف سوري في المتن قبل إقدام النائب رازي الحاج وعدد من بلديات المتن على اتخاذ إجراءات لضبط الوضع.
القضاء الآخر ذو الأغلبية والرمزية المارونية الذي يعاني من إجتياح النازحين هو قضاء جبيل، فمن جرود جبيل انطلق تلامذة القديس مارون للتبشير في الجبال، وفيها كان مقرّ البطريركية في يانوح وإيليج، ويُشكّل ساحل جبيل موطناً للنازحين السوريين بسبب غياب الإجراءات الرادعة، ويبلغ عدد النازحين في جبيل نحو 55 ألف نازح، مع الإشارة إلى أنّ أعداد السوريين في بعض البلدات الجبيلية الجردية تتخطّى أعداد اللبنانيين في الشتاء.
وإذا كان الموارنة بقياداتهم السياسية والدينية يطالبون بانتخاب رئيس للجمهورية، فالرئيس الذي سيُنتخب سيسكن قصر بعبدا وبالقرب منه رقم هائل من النازحين السوريين، وتشير الإحصاءات إلى وجود 130 ألف نازح سوري في قضاء بعبدا، أي بتفوق واضح على أعداد الموارنة أبناء المنطقة، وبذلك تسقط الرمزية المارونية لهذا القضاء بعدما باتت أعداد النازحين أكثر منهم.
أما الصدمة أنه في الشوف منبت الزعامات المارونية ومثال الشراكة المارونية – الدرزية، انصبّ الجهد على عودة المسيحيين إلى بلداتهم بعد الحرب ومصالحة الجبل، فاقتصرت العودة الدائمة على بضعة آلاف من المسيحيين الشوفيين، في حين سجّل عدّاد النازحين أرقاماً قياسية صادمة في القضاء وصلت إلى 185 ألف نازح، أي ما يفوق أعداد المسيحيين القاطنين بعشرات الأضعاف وحتى أعداد الدروز. والواقع نفسه ينطبق على عاليه التي يُسجّل فيها نحو مئة ألف نازح سوري، بينما لا يصل عدد القاطنين المسيحيين بشكل دائم إلى 15 ألف مسيحي.
وللجنوب المسيحي حصته
ولا يقتصر الأمر على الشمال المسيحي وجبل لبنان، إذ يشكّل قضاء جزين رمز الوجود المسيحي والماروني في الجنوب، وإذا كانت الحرب والأزمة الإقتصادية قد أبعدت أهالي جزين في عدد من القرى عن بلداتهم، إلا أنّ رقم النازحين السوريين في هذه المنطقة مرتفع ويصل إلى حدود 27 ألف نازح، أي ما يفوق أعداد الموارنة والمسيحيين القاطنين في هذه المنطقة التي لا تصل إلى 15 ألفاً بشكل دائم. ما تمّ عرضه من أرقام هو عيّنة بسيطة عن التغلغل السوري داخل المناطق المارونية، علماً أنّ هذا التغلغل موجود في كل لبنان ولا يقتصر على منطقة دون أخرى. وتكمن الخطورة في المناطق المارونية والمسيحية، بسبب الفراغ السكاني الذي يحصل، فعلى سبيل المثال، يوجد في عكار أو طرابلس أو بعلبك عشرات آلاف النازحين، لكن مقابلهم يقطن المنطقة لبنانيون، أما في الجبال المارونية، فقد تغيّرت هوية المنطقة، إذ بات السوريون هم الأغلبية وسط هجرة اللبنانيين أو سكنهم في بيروت، وسط تزايد المخاوف من دمجهم نتيجة الدعم الغربي لهم وتمكّنهم اقتصادياً وعدم رغبتهم في ترك القرى والبلدات وسط تراخي الإدارات المحلية والدولة، وبالتالي بات على الكنيسة والقيادات السياسية التحرّك قبل فوات الأوان وفقدان الجبال التي لم يستطع الغزاة احتلالها.