إختلال التوازن والذهاب إلى التحليل من الآثار المدمرة للتباعد الداخلي
من يتمعن بحالة القيادات السياسية المارونية في هذا الظرف، يلاحظ ليس حالة التباعد والخصومة القائمة بينها فقط، وإنما تقوقعها وانعزالها عن باقي المكونات السياسية الاساسية الاخرى، تحت عناوين وشعارات ظاهرها براق، وباطنها يخفي في طياته نزعة الاستئثار والشخصانية والعودة إلى زمن ما قبل الحرب الاهلية المشؤومة، ما يشرذم قوتها ويضعف دورها ويجعل تاثيرها محدودا، في المشاركة بالقرار السياسي والسلطوي، ويحدث خللا في التوازنات السياسية على مستوى لبنان كله.
وفي نظرة هادئة لواقع القيادات السياسية المارونية، يلاحظ بوضوح ان كلاً منها، متباعد عن الآخر، لا يلتقيان مع بعضهما البعض، حتى في المناسبات المهمة. يتجنب أحدهما الآخر، تحت حجج وذرائع غير مقنعة، وإذا حدث خرق ما، بالصدفة او لمصلحة محددة، يكون استثناء وليس قاعدة، واصبح الواقع الآن، وكأن كل واحد منهم يعيش في جزيرة منعزلة عن الآخر، في الوقت الذي يتطلب منهم الالتقاء والتشاور في الحد الادنى، بالقضايا والمسائل الخطيرة والمهمة المطروحة، يتعلق بتوحيد الجهود، والتلاقي وتقديم انفسهم او حتى بعضهم بموقف موحد، يساهم في الخروج من حالة الجمود والعجز القائمة، ويحدث تبدلا في المشهد السياسي العام.
لا يقتصر واقع العزلة التي يعيشها القادة السياسيون للموارنة عن بعضهم البعض فقط، وإنما على عزلتهم عن معظم الاطراف السياسيين الأساسيين من الطوائف الاخرى، ما زاد من تشرذم القوى السياسية عموما، واحدث خللاً اضافيا في موازين القوى السياسية، استفاد منه حزب الله وحلفاؤه، للاستئثار بالسلطة، والتصرف بشبه احادية في معظم قرارات الدولة، وحرفَ سياساتها لمصلحتهم على حساب المصلحة الوطنية العليا، كما يحصل حاليا، في تجاوز الدستور والقوانين، وتقرير سياسية السلم والحرب، بمعزل عن باقي الاطراف اللبنانية، وزج بلبنان في أسوأ أزمة مرت عليه بتاريخه الحديث.
وللدلالة على واقع عزلة القيادات المارونية حاليا، يلاحظ بوضوح أن رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع وكتلته النيابية، وهي الاكبر مسيحيا بالمجلس النيابي، لم يستطع شبك تحالفات سياسية مع أي كتلة نيابية مسيحية اخرى، او حتى مع كتل الطوائف الآخرى، بعد انفراط تحالفه مع كتلة تيار المستقبل النيابية، وفك تحالفه مع الرئيس سعد الحريري بعد احداث تشرين الاول عام ٢٠١٩، باستثناء علاقات محدودة مع نواب وشخصيات سياسية محدودة التاثير في الواقع السياسي، وتفرده بأداء سياسي، يتعارض بمجمله مع باقي الاطراف السياسيين الأساسيين.
ولا يختلف الامر مع رئيس التيار الوطني الحر النائب جبران باسيل وكتلته النيابية، الذي انقلب في بداية ولاية الرئيس ميشال عون على تفاهم معراب مع القوات اللبنانية اولا، ثم على الاتفاق مع الرئيس سعد الحريري، وتصادم مرارا مع رئيس المجلس النيابي نبيه بري، واستعدى رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي السابق وليد جنبلاط، ورئيس تيار المردة سليمان فرنجية، وازداد عزلة بعد انتهاء ولاية الرئيس ميشال عون واعتكاف الوزراء المحسوبين على التيار عن حضور جلسات حكومة تصريف الأعمال برئاسة نجيب ميقاتي، وانفراط تحالفه مع حزب الله، وتباعده مع باقي الكتل والنواب المنفردين.
اما بالنسبة لرئيس حزب الكتائب النائب سامي الجميل وكتلته النيابية المحدودة العدد قياسا على كتلتي القوات اللبنانية والتيار الوطني الحر، بقي بمعزل عن التحالف معهما، إلى حد التباعد والخصومة حيناً، وتميز بخصوصية بالخطاب السياسي وحدته، بالرغم من انفتاح محدود على بعض النواب التغييرين والمستقلين، وبقي بعيدا عن ارساء أي تحالف جدي مع أي كتلة نيابية بارزة حتى اليوم.
ويبقى رئيس تيار المردة سليمان فرنجية استثناء عن باقي القيادات المارونية، بانفتاحه وعلاقاته مع معظم الكتل النيابية والاطراف السياسيين، وإن كان نواب كتلته النيابية، الاقل عددا عن باقي الكتل والاحزاب المسيحية الثلاث بالمجلس النيابي.
واقع عزلة وخصومة القيادات المارونية الحالي بين بعضهم البعض، تسبب في ضعف موقفهم وعجزهم عن فقدان المبادرة بانتخاب رئيس للجمهورية، وابقاء لبنان بلا رئيس للجمهورية خدمة لصالح خصومهم السياسيين، وإن كان اتفاقهم الظاهري اليتيم عطل انتخاب مرشح خصومهم سليمان فرنجية للرئاسة حتى اليوم.
في السابق لم يحصل ان تباعد القادة السياسيون للموارنة وعزلوا بعضهم عن بعضهم، وعن باقي المكونات الى هذا الحد، بالرغم من حدة الخصومة السياسية والتنافس في ما بينهم.
كانوا يتحالفون في مواجهة خصومهم، حتى في عز الخلافات القائمة بينهم.
اما ما يحصل اليوم فهو مزيج من الأنانية والغرور والشخصانية، وكلها تؤدي إلى العجز ومزيد من الضعف في التأثير واختلال التوازن والتشرذم والتحلل السياسي الحاصل.