هناك مقولة رائجة، وهي خاطئة، انّ ما استحال مع الموارنة والسنة سيستحيل مع الشيعة بحجّة انّ لبنان يُحكم بالشراكة لا التفرُّد، وانّ المسألة الشيعية بعمقها الإيراني ستعود إلى لبنان والشراكة.
على رغم انّ السلطة مُغرية بشرياً وشكلت هدفاً إنسانياً على مرّ التاريخ والعصور، إلا ان تمسُّك الموارنة بالسلطة وصلاحياتهم داخلها لا يجوز حصره بخلفيات سلطوية، إنما أحد خلفياته كان الحفاظ على «لبنان الكبير» في ظل الخشية من الانتماء السني الأكبر من لبنان، وهذا طبيعي لناحية عدم التأقلم السريع لطائفة مع أوضاع جديدة مناقضة جذرياً لمسار تاريخي كان الانتماء فيه للأمة لا الوطن، إذ بعد انهيار السلطنة العثمانية أصبحت أمام واقع جديد ومفاهيم جديدة تتعلّق بالدول والحدود والكيانات. وبالتالي، كان الاعتقاد الماروني بأنّ الصلاحيات تشكل الضمانة للحؤول دون ذوبان لبنان بسوريا او ضمن وطن عربي او أمة إسلامية، ولكن التركيبة اللبنانية التي صمدت أمام الثورة الناصرية، لأن الرئيس جمال عبد الناصر كان رجل دولة، عادت وانهارت مع الثورة الفلسطينية.
فالمشروع الماروني لم يكن بعمقه وجوهره مشروعا سلطويا، إنما كان همّه الأساس حفاظ الموارنة على حريتهم في وطن تعدّدي يُزاوج بين مشرقيته الجغرافية وبين دوره الغربي، وحاولوا من خلال هذا الدور جذب المسلمين إلى هذا المشروع الفريد من نوعه في العالمين العربي والإسلامي بهدف الوصول إلى أمة لبنانية تشكل نقيضاً للأمم الدينية والفوق لبنانية، ولكنهم فشلوا بذلك، لأن الانتماء التاريخي والديني للمسلمين كان أقوى من الانتماء إلى لبنان، وهذا أمر مفهوم وبحاجة الى تراكم تاريخي وظروف لتغييره، وهذا ما حصل لاحقاً، ولكن شاءت الأقدار ان تنهزم الجيوش العربية في حرب العام 1967 وان تنتقل الثورة الفلسطينية إلى لبنان بغطاء عربي وبيئة إسلامية حاضنة، فانهارت الدولة والتجربة.
وعليه، من الظلم القول ان الموارنة تمسّكوا بصلاحياتهم طمعاً بسلطة ونفوذ فقط، إنما خوفاً على الفكرة اللبنانية، ومن دون تبرئتهم من مسؤولية ما آلت إليه الأمور، إنما محاولة لتصحيح انطباع عام خاطئ بعيداً عن الحيثيات والتفاصيل، وفي الصورة الكبرى كانت خشية الموارنة من الذي وَثّقوه في ميثاق العام 1943 تحت عنوان «لا شرق ولا غرب»، أي من عدم انجراف المسلمين في الموجات والتيارات الشرقية.
ولا شكّ انّ تراكم الأحداث والتطورات أدى إلى تراجع تيارات الوحدة العربية والسورية والأمة الإسلامية، وتَقدُّم منطق الدول والتمسُّك بنهائياتها، خصوصا بعد أحداث أدت إلى هزائم ونكسات وانتقال الهدف التوسعي من العالمين العربي والإسلامي إلى الثورة الإسلامية في إيران التي اخترقت هذه الدول وزَعزعت استقرارها، وقد تحوّل الهم العربي والإسلامي إلى كيفية تحصين السيادة في مواجهة الاختراق الإيراني.
وقد استفاد لبنان طبعا من هذا التحوّل في الذهنية السنية، وترافق مع صعود حالة سنية لبنانية جديدة عملت على ترجمة المزاج السني العربي المشدود باتجاه السيادة. ومن الظلم هنا أيضا القول انّ حقبة الشهيد رفيق الحريري هي حقبة حُكم السنة للبنان وانها شهدت تجاوزا لصلاحيات ودستور، لأنّ الحريري حكم وسط توازنات دقيقة أرساها بدقة الرئيس حافظ الأسد، وصعوده واغتياله حصلا في زمن الاحتلال السوري، ومن الخطأ القول ان هذه الحقبة هي حقبة حكم السنة للبنان، فيما هي حقبة حكم الأسد للبنان.
فالخطأ الأول في المقولة القائلة ان كل طائفة تريد ان تقوم بتجربتها في الحكم يكمن في ان الموارنة تمسكوا بالصلاحيات لخلفيات سلطوية، فيما تمسكهم بهذه الصلاحيات كان بسبب مخاوفهم من ذوبان لبنان بمحيطه. والخطأ الثاني ان السنة حكموا مع الرئيس رفيق الحريري، فيما الحقيقة ان النظام السوري كان الحاكم، والحريري أخذَ مكانته بفِعل شخصيته وطاقته وعلاقاته وديناميته، وصالح بدوره السنة مع لبنانيتهم مستفيداً من الدور السعودي المؤمن بنهائية الكيانات.
وما ينطبق على تمسُّك الموارنة بصلاحياتهم حرصاً على لبنان الحرية والتعددية والحياد، وما ينطبق على السنة الذين تألّق دورهم بفضل شخصية رفيق الحريري الاستثنائية، إلا أنهم لم يحكموا كما يحلو للبعض القول تبريراً لتجربة ثالثة لن يختلف مصيرها عما حلّ بالموارنة مع الاحتلال السوري، وما حلّ بالسنة مع اغتيال الحريري، وبالتالي ما ينطبق على المكوِّنين المسيحي والسني لا ينسحب على شيعة الثورة الإيرانية في لبنان للأسباب الآتية:
أولاً، لم يمنع الانتماء العروبي للسنة من الدخول في تسويات مع المسيحيين في العام 1943 حولّت لبنان إلى سويسرا الشرق، وفي تجاوز ثورة العام 1958، وفي تسوية الطائف التي أنهت الحرب، وفي لقاء الحرية والسيادة ولبنان أولاً في العام 2005، والتسويات كانت دائماً على ثوابت لبنانية ودستورية ودولتية، فيما التسوية مع شيعة الثورة الإيرانية لم تحصل منذ العام 2005، الأمر الذي أبقى لبنان دولة صورية فاقدة لسيادتها.
ثانياً، الفارق الجوهري بين البيئة السنية التي كانت مشدودة عاطفيا وعقليا ووجدانيا إلى وحدة عربية ووحدة سورية وقضية فلسطينية على حساب لبنان، وبين البيئة الشيعية المشدودة عقليا وعاطفيا ووجدانيا باتجاه الثورة الإيرانية على حساب لبنان أولا، وبالتالي الفارق الجوهري بين الإثنين انّ انشداد السنة لم يؤدِ إلى عسكرة المجتمع السني وتنظيمه وتأطيره وتسليحه وكَودرته تحقيقاً لهدفه بإلحاق لبنان بسوريا او بوحدة عربية، إنما كان انشدادا عفويا فرديا ولكنه يعكس رؤية معظم أفراد المجتمع السني، فيما البيئة الشيعية التي تشكل جزءا من الثورة الإيرانية تحولت إلى حزب مسلّح ومنظّم ومكودَر ويشكل سلاحه علة وجوده وأحد الأدوات الأساسية لنشر الثورة الإيرانية.
ثالثاً، الفارق الأساسي أيضا بين البيئة السنية والبيئة الشيعية الثورية هو ان الأولى كانت تتفاعل عفويا وعاطفيا مع أحداث خارجية بدءا من صعود الزعيم عبد الناصر، وصولا إلى الرئيس ياسر عرفات. اي انّ تفاعلها هو «من جوّا لبَرّا»، اي انه لم يكن هناك من دولة سنية لديها مشروعها التوسعي على خلفية عقائدية وتتولى تنظيم البيئات السنية المؤيدة لتوجهها ضمن أطر ميليشياوية، فيما البيئة الشيعية الثورية هي العكس تماماً «من برّا لجوّا» وتشكل جزءا لا يتجزأ من ثورة إيرانية أمسكت بالنظام الإيراني في العام 1979 وتعمل على نشر ثورتها وتحويل البيئات الشيعية في الدول العربية واي دولة في العالم إلى بيئات مؤمنة وملتزمة بالفكر الديني الثوري، فلولا الثورة الإيرانية مثلاً لَما وُلِد «حزب الله» ولما وجِد.
رابعاً، التسوية مع السنة كانت ممكنة لأنهم لم يكونوا جزءا من مشروع خارجي، ولا بل الخارج السني كان يتدخّل لضبط انفعاليتهم، من مصر إلى السعودية وما بينهما من دول عربية أخرى كانت تريد إبقاء لبنان مستقرا، فيما التسوية مع البيئة الشيعية الثورية مستحيلة لأنها تشكل جزءاً لا يتجزأ من مشروع خارجي، ولولا وجود «حزب الله» لكانت التسوية مع حركة «أمل» بقيادة الرئيس نبيه بري ممكنة حُكما وحتما، ولكن وجود الحزب يمنع ذلك ويُقفل الطريق بشكل محكم، وبالتالي لا حل مع الحزب لبنانياً، واي محاولة هي مضيعة للوقت، لأنّ ارتباطه بالمشروع الإيراني من طبيعة عضوية، ولا بل هناك وحدة حال بين مكونات هذا المشروع المتكامل الذي لا تفرِّق بين صفوفه كيانات ودول وحدود.
خامساً، الخطورة التي على جميع اللبنانيين التنبُّه لها بأنّ مشروع الثورة الإيرانية بامتداداته اللبنانية يختلف جذريا وجوهريا عن تجربتي المسيحيين والسنة، ومن الخطأ وضع التجربة الشيعية الثورية في السياق نفسه للتجربتين السابقتين، لأنّ مجرّد وضعها في هذا السياق يعني إعطاء تطمينات في غير محلها بأنّ المشروع السلطوي لهذه التجربة سيصطدم بالتعددية اللبنانية التي ترفض المشاريع الأحادية.
سادساً، المشروع الثوروي الشيعي الإيراني ليس مشروعا سلطويا على غرار المشروع المسيحي والسني وفقاً لتوصيف البعض، إنما هو مشروع عقائدي وتمددي هدفه إلحاق لبنان شرعيا ورسميا بالثورة الإيرانية وليس الاكتفاء بإلحاقه بالقوة كما هو حاصل اليوم، ويتكئ على عامل الوقت ويعمل بشكل منهجي ومدروس بهدف ضرب التعددية اللبنانية، ومن خلال التمدُّد المناطقي والهجرة التلقائية للمسيحيين والسنة والدروز، بسبب إبقاء الأوضاع غير مستقرة عمداً وعن سابق تصور وتصميم، يُصبح لبنان، كل لبنان، تحت سيطرته.
سابعاً، التعددية اللبنانية بخطر حقيقي، والتعددية توصيفاً لا تعني التنوُّع المذهبي الموجود في لبنان، إنما المقصود بها تحديداً التوازن السياسي الدقيق بين المسيحيين والمسلمين، وهذا التوازن بالذات الذي جعل من لبنان وطن الرسالة، ومع دخول المشروع الشيعي الثوري الإيراني أصبحت التعددية بخطر والتوازن إلى زوال ما لم يتفِّق المسيحيون والسنة والدروز والشيعة، الذين هم خارج المشروع الإيراني، على مواجهة عملية في سياق مشروع سياسي يوقِف تمدُّد المشروع الإيراني داخل الجماعات والمناطق والبلدات، اي الانتقال من سياسة الصمود إلى سياسة المشروع الذي من دون تحقيقه سيتحوّل لبنان في أقل من عقد إلى محافظة إيرانية.
وختاماً، يقول مرجع حكومي سابق ان الحرية الموجودة في لبنان غير موجودة في اي بلد عربي على رغم التقدُّم والتطور والحداثة التي تشهدها بعض الدول العربية، لكن سرّ هذه الحرية هو الوجود السياسي المسيحي في لبنان، وإذا ضعف هذا الوجود او انكسر لن يبقى لهذه الحرية من أثر سوى في كتب التاريخ.