تضاف سابقة جديدة في هذا العهد بنقل الاحتفال السنوي بعيد الاستقلال الى اليرزة، من دون عرض عسكري واحتفال مركزي في بيروت. محاسن ما حصل أن اللبنانيين لم يعلقوا في سياراتهم كما جرت العادة بسبب تمارين العرض، لكن المفارقة أن المتظاهرين هم الذين يحتفلون في بيروت من دون السلطة التي انتقلت الى حيث هي قادرة على إبعاد المتظاهرين، وعلى فرض حضورها وهيبتها وسلطتها المركزية.
يبدع أركان الحكم في كيفية تعاطيهم مع التظاهرات والشعارات المرفوعة، كما مع تأليف الحكومة، كما تتفنّن المصارف في إذلال المودعين الذين لا يزالون «مهذبين جداً» في الرد عليها. لكن من حسنات كل ذلك أنه بدأ يكشف أزمات من نوع آخر، تتعدى العناوين التي انطلقت منذ 17 تشرين الأول. فالتظاهرات طرحت إشكالية تتعلق بواقع الطوائف التي تفلّت منها المتظاهرون، وبحجم الأزمات الداخلية التي تعيشها التيارات والأحزاب. ورغم أن ثمة قيادات سياسية تعيش حالة من الإنكار والمكابرة، إلا أن الواقع الذي ينتج كل يوم شكلاً جديداً من أشكال المواجهة، بدأ يدفع الطوائف والأحزاب النائمة على أمجادها الى البحث في حقيقة وضعيته الداخلية.
لعل الطائفة المارونية اليوم، أول من يحتاج الى هذه المراجعة. فما يحصل سياسياً يحصل في عهد رئيس ماروني قوي، تضافرت قوى مارونية وبكركي الى إيصاله، وتمحور خطاب تياره السياسي على «استعادة الحقوق» المسيحية والمارونية، لتصبح صفة الرئيس القوي تهمة بعد بضعة ارتكابات تسبب بها العهد والمحيطون به. ما يجري مالياً من انهيار مسؤول عنه أيضاً حاكم مصرف لبنان، الماروني أيضاً، المتربع على واحد من المناصب الرفيعة التي كانت تُقدّم للموارنة كأحد أعمدة الحفاظ على «مكتسباتهم» في الإدارة. والأزمة المصرفية وسلوك المصارف الذي يزداد تعنتاً، يتم أيضاً بحماية رئيس جمعية المصارف الماروني والذي تربطه علاقات قوية بكل أركان الكنيسة. ما يجري أمنياً أيضاً، وله انعكاساته الداخلية، يتم أيضاً في ظل قائد للجيش ومدير للمخابرات مارونيين، وقائد للدرك ماروني أيضاً. وما يحصل في القضاء أيضاً وملفات الفساد المتراكمة في ظل وجود رئيس مجلس القضاء الأعلى وقضاة موارنة في مراكز حساسة. عادة تُصَوّر هذه المواقع كضمانة للطائفة في حضورها وقوتها في النظام الحالي، لكن حين يكون معظم أصحاب هذه المناصب مرشحين دائمين لرئاسة الجمهورية، وممارسة أكثريتهم لا تتعلق إلا بسلوكيات أثبتت عقمها، فهذا يطرح إشكالية هذه الشريحة المارونية، التي أصبحت جزءاً لا يتجزأ من المنظومة القائمة التي كانت تتعرض للانتقادات. وهي مغطاة برضى كنَسي فاقع ترجم بابتعاد الكنيسة وأساقفتها ومؤسساتها الكنسية والجامعية والطلابية عن الحضور الفعلي في حركة شعبية بهذا الحجم. من المرات النادرة أن تبتعد «نخبة» هذه الطائفة منذ لبنان الكبير الى الاستقلال وتظاهرات 14 آذار عن الحضور الى جانب ناسها وجمهورها وعن شريحة تطالب بحقوق العدالة والمساواة ومحاربة الفساد. في حين أنها تحاول منذ سنوات أن تستعيد حضورها الفعلي في الدورة السياسية. ومن دون التذرّع بهيمنة حزب الله وتدخلات خارجية، أو بأن سبب الأزمات منظومة فساد عمرها سنوات طويلة وأن المشكلة تكمن في قيادة أفراد وليس طائفة، فإن ثمة واقعاً مهترئاً كشفه غياب النقاش الفعلي منذ شهر حتى الآن، حول سبب التراخي «في هذه الطائفة». إضافة الى ضغوط طبقة سياسية وكنسية واجتماعية واقتصادية ومالية، تتضافر في باطنها ضد المتظاهرين، انكشف غياب عنصر الثقافة الفعلية والوعي السياسي لدى شريحة طلابية وجامعية في مؤسسات تعليمية تابعة للكنيسة لا تنتج عصباً شبابياً حقيقياً. يكمن الفرق مثلاً في مقارنة هؤلاء مثلاً مع طلاب جامعات أخرى ومع حضور الشباب اليساري الآتي من واقع آخر مختلف وعياً وثقافة وحساً اجتماعياً، برهن في هذا الشهر عن قوة حضور بارزة.
يُعطى للمتظاهرين فضل إيقاظ «حركة وعي» لدى محازبين ومناصري أحزاب
على ضفة أخرى، تعيش الأحزاب السياسية أزمة مراجعة وهي التي خرجت من الانتخابات البلدية أو النيابية منتشية بانتصارات شعبية وحجم تمثيلها الحقيقي لناخبيها. أهمية الشارع أنه وضع هذه الأحزاب أمام تحديات جديدة لا تتعلق بإدارة التسوية والأزمة الحالية.
ما يجري في تيار المستقبل من نقاشات نيابية ووزارية يتعدى تبادل المسؤوليات والتهم، ليصل الى مقاربة بعض الشخصيات السياسية الواعية لمستقبل التيار، بعد تراكم الأخطاء التي ارتكبت خلال السنوات القليلة الماضية، بما يتعدى رغبة الرئيس سعد الحريري الشخصية بالعودة الى الحكومة. وهكذا فعل الرئيس نبيه بري مع كوادر حركة أمل في أكثر من مراجعة، وكذلك ينصرف رئيس الحزب الاشتراكي وليد جنبلاط بدوره الى إعادة تنظيم حزبه وكوادره وطاقاته. وبخلاف الصورة التي يريد رسميّو التيار الوطني إعطاءها حول وحدة التيار، وصحيح أن مركزية القرار لا تزال محصورة في يد رئيسه الوزير جبران باسيل، إلا أن مجرد فتح باب النقاش والاعتراضات الجدية وانتقالها من البيت العائلي الى قواعد الحزب وكوادره، ليس أمراً بسيطاً في تيار تحول في الآونة الأخيرة الى تيار مفصل على قياس رئيسه المعتمد أولاً وأخيراً على ثابتتين: رئيس الجمهورية والتحدث باسمه داخل التيار، وحزب الله المتوافق معه في مفاوضاته السياسية الداخلية وحتى مستقبل التيار السياسي وهو ما يتحدث به المعارضون الفعليون. لكن النقاش فتح ولو أنه لن يصل الى نتائج ملموسة، وخصوصاً لجهة قدرة استيعاب باسيل لبعض المعارضين التي تكمن أحياناً في طرح أسمائهم للتوزير.
كل ذلك يسمح بأن يُعطى للمتظاهرين الحقيقيين فضل إيقاظ «حركة وعي» من نوع مختلف، لدى محازبين ومناصري أحزاب، كخطوة أولى. وهذا في حد ذاته يحتسب لهم ولو لم تتحقق مطالبهم نتيجة تجذّر نظام متكامل من المصالح.