IMLebanon

الموارنة.. و«السياسات الريفية»

يحتفل الموارنة، اليوم، بعيد شفيعهم وهديرُ التاريخ وزلازل المجتمعات والجغرافيا تحيط كالأفاعي حول «لبنان الكبير» الذي أسسوه وأسقطوا القيم التي حملوها على دولته ودستوره.

ليس تفصيلاً مشروع «لبنان الكبير». ليس عابراً أن تنشأ دولة دستورية لا دين لها في مجتمع متعدد وتكون واحة للحريات الشخصية والعامة ورئيسها المسيحي الوحيد بين دول عربية تقوم دساتيرها وشرائعها على دين واحد للدولة.

هذه التجربة الهائلة، لم تأتِ عارضة ولا بسبب قوة الموارنة العسكرية ولا حتى بسبب علاقتهم السياسية بالغرب فقط. فمشروع تكريس الاستقلال الذاتي لجبل لبنان وتكبير حدوده أتى نتيجة نضال ومسار قاده الموارنة دفاعاً عن حرية المعتقد والإنسان، وجوهره المشروع الحضاري الثقافي الذي أطلقوه ونثروا بذوره في كل «لبنان الكبير». زرعوه بالتعلق بالأرض، وأيضاً بالتربية والمطبعة وقرارات مجمع سيدة اللويزة وحفظ الثقافة العربية وبالأفكار التحررية التي اعتنقوها، وأدت، مع سلسلة عوامل اقتصادية وديموغرافية، إلى الانتفاض على الإقطاع وتغيير تركيبة الاجتماع السياسي في جبل لبنان واختلال التوازنات ما قاد إلى اندلاع الفتن الدرزية ـ المارونية الكبرى.

بالتوازي، بقيت معضلات الموارنة الجوهرية ثغرة قاتلة لهم. انقساماتهم وصراعاتهم الشديدة في أوقات الأزمات ألغت نقاط قوتهم ومنحت خصومهم الفرصة لقلب سير الأمور لمصلحتهم في محطات تاريخية عدة.

ومن أيام المقدمين إلى اليوم، نجد العديد ممن فضّل مد اليد إلى الخصوم في الخارج لمحاربة منافسيه في الداخل. إنها عقدة الصراع الجبلي المميتة التي امتزجت بدماء مارونية كثيرة في الحرب. وفي «دولة لبنان الكبير»، ساهموا، كنخب سياسية وحزبية، وإلى جانب تركهم بصمات متميزة كثيرة، في تقويض فرص عدة لبناء دولة عادلة للجميع وتدعم مشروع لبننة المجموعات والطبقات في اندماجها في منظومة الدولة وخدماتها، بالتحديد مشروع فؤاد شهاب الذي أجهز عليه «الحلف الثلاثي».

وإذا كان الموارنة في القرن التاسع عشر قد حملوا المشاريع الإستراتيجية في مسار من الحداثة على كل الصعد، فماذا تحمل اليوم القيادات السياسية والدينية والقوى الحزبية، في ظلّ تفجر عنيف لمجتمعات المشرق؟

قد يعتقد البعض أنَّ بإمكانه مواجهة التحديات الجديدة بوصفات انتهت صلاحيتها منذ زمن بعيد. لكن اليوم تقف المنطقة، ولبنان كمشروع وحلم ماروني، أمام الزلازل الأقوى ربما في تاريخه: سقوط عملي لمنظومة «سايكس ــ بيكو»، انهيار الدولة المركزية القومية في سوريا والعراق، بروز الغول التكفيري. فهل لدى القوى والنخب المارونية نهج ومشروع بحجم المخاطر والتحولات؟

إنَّ أيَّ استمرار باعتماد سياسات محلية ريفية، سيكون مميتاً ولن يُبقي حتى «مرقد العنزة» الشهير.

ولعل التحدي الأخطر يكمن في الداخل. فالشأن العام يحتاج إلى أكثر من حداثة في بنية الأحزاب والقوى السياسية لكي نحلم بأن نبني المرتكزات الأساسية لوجود يبقى ويشعّ دوراً وحضارة.

ما يحتاجه الحفاظ على المشروع اللبناني اليوم نهج من وحي التراث الغني، الذي تشهد عليه دماء الموارنة والمسيحيين دفاعاً عن الحرية والتعددية والإنسان. التراث الغني بالقيم، بالتعلق بالأرض، بالفكر الحداثي والمعرفة بالمحيط، بالنهج النضالي القيَمي، واقتران كل ذلك بفكر استراتيجي.

نضال وقيَم، وإلا… «تشبحتو لمريو»!