IMLebanon

الموارنة.. معركة الزعامة لا الرئاسة (1)

بمعزل عن ترشيح النائبين ميشال عون وسليمان فرنجية بعد لقاءَي باريس ومعراب ومقاربة الكتل النيابية لهذين الترشيحَين وظروفهما، تُوجب القراءة الموضوعية لمسار الاستحقاق الرئاسي منذ حلول الشغور ضيفاً ثقيلاً على القصر الجمهوري، النظر إلى الصراع الدائر بين المرشحين لرئاسة الجمهورية بوصفه معركة على الزعامة المارونية قبل أن يكون معركة على الرئاسة.

ذلك أنّ المسيحيين عموماً، والموارنة خصوصاً، دخلوا منذ العام 2005 مرحلة السعي إلى حسم زعامتهم أسوة بما جرى في الطوائف الكبرى الأخرى، التي سبق وأنجزت هذه المهمّة في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي بعد رحيل جيل زعاماتها السابق (كامل الأسعد وصائب سلام ورشيد كرامي وكمال جنبلاط..). ذلك أنّ المسيحيين لم يتمكّنوا من إنجاز هذه المهمّة كباقي الطوائف لفترة طويلة بعد رحيل كميل شمعون وبيار الجميّل وبشير الجميّل في الثمانينات، باعتبار أنّه بعد أن لاحت بوادر حسم الزعامة مع طلائع الجيل الجديد مع صعود نجم سمير جعجع ومن ثم ميشال عون دخل مسار الزعامة المارونية في طور التعليق بسبب الوصاية السورية التي حالت دون قدرة أي من الشخصيتين الأكثر تمثيلاً لدى المسيحيين على تصدّر هذه الزعامة أو اختبارها في صناديق الاقتراع بفعل دخول الأول إلى السجن وتهجير الثاني إلى فرنسا.

وبذلك بقيت الزعامة المارونية معلّقة مدّة 15 عاماً حتى خروج جيش الوصاية من لبنان العام 2005، حيث أجريت أول انتخابات نيابية شارك فيها عون وجعجع للمرّة الأولى، فحصد الجنرال سبعين في المئة من أصوات المسيحيين ما توَّجه «زعيماً» شرعياً للمسيحيين (من خلال صندوق الاقتراع)، وما حدا البطريرك مار نصرالله بطرس صفير على الإقرار بأنّه أصبح هناك «زعيم» للمسيحيين رغم عدم تطابق مواقفه مع مواقف عون، والسبب أنّ صفير كان يدرك لهفة المسيحيين إلى حسم زعامتهم التي حُرموا منها طوال مرحلة الوصاية.

لكن وعلى الرغم من أهمية هذا التطوّر بالنسبة إلى المسيحيين، انتقلوا من مرحلة «الزعامة المعلّقة» إلى مرحلة «الزعامة المتقلّبة» بعد عام فقط على انتخابات 2005، حيث بدأ رصيد الجنرال الشعبي يتضاءل إثر «تفاهم مار مخايل» مع «حزب الله»، وقد بلغ هذا التراجع ذروته في انتخابات 2009 حيث أظهرت النتائج نسباً متساوية تقريباً بين عون وجعجع لدى المسيحيين.

ولأنّ تأييد الجنرال لتدخّل «حزب الله» في الحرب السورية ساهم في تراجع مزيد من النقاط من حسابه وصل إلى حدّ تساويه مع نقاط جعجع، فإنّ استمرار هذا المسار أظهر تقدّماً لجعجع في بعض الإحصائيات بدأ بالظهور منذ شباط 2013 (حينها بيّن بعض نتائج استطلاع رأي أجرته مؤسسة «غلوبل فيجن« تصدر سمير جعجع الزعماء المسيحيين في تلك الفترة بـ25 % من التأييد وأتى ثانياً العماد عون بـ18 %) ممّا دفع «الحكيم» إلى التركيز منذ ذلك الحين على استطلاعات الرأي وعلى أولوية حسم معركة الزعامة مع الجنرال.

وربّما لهذا السبب كان حماس جعجع لما سُمِّي «القانون الأرثوذكسي» أكثر من حماس عون باعتباره يتيح له منازلة انتخابية صافية معه، أي على أرض مسيحية فقط (بمعزل عن الطوائف الأخرى) اعتقاداً منه بأنّ فوزه في هذه المعركة يحسم الزعامة لمصلحته «بشفافية» مطلقة بحيث لا يمكن لأحد أن يُعيد هذا الفوز إلى «الصوت المسلم».

ولم يرَ بعض المتابعين في رفض جعجع المشاركة في حكومة الرئيس تمام سلام، أو رفضه المشاركة في الحوار، سوى محاولة جديدة منه لتعزيز نقاطه في الإحصائيات على حساب عون، حتى إذا سقط «القانون الأرثوذكسي» ومعه فرصة المنازَلَة المباشِرة مع الجنرال ذهب إلى اقتراح استطلاع الرأي المسيحي، الذي تقرّر إثر «إعلان النوايا» بين «التيّار الوطني الحرّ» و»القوّات اللبنانية»، كبديل من إجراء الانتخابات على أساس «القانون الأرثوذكسي».

إذن، وبعيداً عن الاهتمامات الوطنية الأخرى والكبرى، بقيت معركة الزعامة بين الموارنة «الأقوياء» أمّ المعارك بالنسبة إليهم، ولذلك انخرطوا في معركة رئاسة الجمهورية بوصفها جزءاً من معركة «الزعامة»، وتعاملوا معها منذ بداية الطريق باعتبارها استحقاقاً «مسيحياً» وحسب، ومن ثمّ أطلقوا شعار «الرئيس القويّ» على قاعدة أنّ «الرئيس القويّ» هو مَن يستحقّ لقب رئيس، لأنّها معركة «زعامة» بالنسبة إلى كلّ منهم.

فبعد «حروب إلغاء» سياسية وعسكرية استمرّت بين عون وجعجع 28 عاماً ولم يتمكّن أحدهما من «إلغاء» الآخر، قرّر الإثنان حسم معركة الزعامة بالتراضي، بداية من خلال التوافق بينهما على قطع الطريق (أو إلغاء) الآخرين، فكان «إعلان النوايا» ومن ثمّ لقاء معراب الذي أعلن جعجع خلاله دعم ترشيح عون للرئاسة. فإذا انتُخب عون رئيساً استحقّ لقب «الزعيم»، وفي المقابل مبادرة جعجع غير المسبوقة تمنحه هو الآخر اللقب نفسه في مرحلة الجنرال وما بعد بعد الجنرال.