بين قيادة الجيش وقصر بعبدا، تخرج إلى الواجهة كل يوم أسماء ضباط وجنرالات. ومع كل استحقاق يضاف اسم جديد إلى لائحة الذين أصبحت لهم حيثياتهم في الجيش وخارجه
بدأ أمس مدير المخابرات العميد إدمون فاضل ولاية جديدة في المديرية لستة أشهر جديدة، بعد استدعائه من الاحتياط.
والخبر الذي كان متوقعاً، بفضل الطلب الأميركي المباشر، جعل «المدير» القديم ــــ الجديد يستكمل عمله أمس من دون أي تغيير. وهو الذي كان متيقناً منذ أشهر أنه باقٍ في موقعه إلى أن تنجلي أوضاع كثيرة، وأن قرار استمراره في مركزه يحمل الكثير من الأوجه والاحتمالات السياسية.
مجموعة من العمداء خرجت من الجيش في الأعوام الأخيرة، ومثلها أيضاً مجموعة من عمداء خرجوا من المخابرات، لكن فاضل بقي في منصبه، كما بقي قائد الجيش العماد جان قهوجي لمرتين أيضاً تمديداً في منصبه، وإن اختلفت ظروف بقائهما وأسبابه، ليصبح فاضل واحداً من الضباط الثوابت في المؤسسة العسكرية.
من المفارقات أن يُستدعى فاضل، كما مُدِّد لقهوجي، على يد وزير الدفاع سمير مقبل، فيما لا تزال مشكلة العميد شامل روكز تصطدم برفض شبه شامل، رغم التصريحات المعلنة والمؤيدة من أكثر من طرف لترفيعه إلى رتبة لواء مع مجموعة من الضباط. والمفارقة أيضاً أنّ جزءاً أساسياً من المشكلة أن القرار في يد جنرال أيضاً، أي الرئيس السابق ميشال سليمان. فما صحّ على قهوجي وفاضل ولم يصحّ على روكز، يسلط الضوء على واقع يأخذ تدريجاً أشكالاً مختلفة، من خلال ما كان يسمى، ولا يزال، صراع الجنرالات الموارنة، في ظل الهاجس الذي أصبح «تقليدياً» بوصول قائد الجيش إلى بعبدا.
حين هدّد سليمان بالاستقالة أكثر من مرة من قيادة الجيش، إحداها في النصف الثاني من كانون الثاني عام 2007 على خلفية التظاهرات وقطع الطرق في كسروان وجبيل، كانت المواجهة السياسية والخسارة قد لحقت بثلاثة جنرالات: إميل لحود وميشال عون وسليمان، نظراً إلى التداعيات التي تركت أثرها في الوضع الداخلي آنذاك. ذهب لحود، وصار سليمان رئيساً، وقهوجي قائداً للجيش، واتخذت «المنافسة» أشكالاً مختلفة. واستمر الصراع بين سليمان وعون، بخلفيتين: الأولى منافسة بين عمادين أحدهما ترك في المؤسسة إرثاً يشبه الإرث الذي تركه اللواء فؤاد شهاب، واعتبر دوماً أنّ ما له على الجيش يسمح له بأن يبقى «عماداً فخرياً له». حتى مهرجان تسليم وتسلم رئاسة التيار الوطني الحر يوم الأحد، حرص على أن يكون للجيش حصة وافرة فيه.
والثانية سياسية وشعبية بامتياز. سليمان أراد بناء شعبية مسيحية حيث يكبر نفوذ عون، من دون أن ينسى أن الأخير وقف ضده في الدوحة وما بعدها. وبدوره لم يوفر عون مناسبة إلا ذكّر سليمان بغلطته لأنه تنازل له عن المقعد الرئاسي. الود المفقود بين الرجلين ينعكس اليوم في الملفات التي يقف سليمان ضد عون فيها. هل أخطأ عون حين وافق على إعطاء سليمان ثلاثة وزراء في حكومة الرئيس تمام سلام، فانقلب عليه مع وزرائه. فالرئيس السابق للجمهورية يحصل من مجلس الوزراء على ما لم يحصل عليه إبان رئاسته، ويضع شروطاً عبر وزير الدفاع، ويمارس دالّته على مجلس الوزراء وعلى الجيش، فيضع مقبل شروطاً داخل المؤسسة وخارجها، يرفع سقف مطالبه ومطالب سليمان في ملفات دقيقة. يقترح سليمان أسماء مرشحين ضباطاً للغرفة العسكرية، للمخابرات، لقيادة الجيش. وهو بذلك يتقدم على عون الذي حصر منذ البدء مطالبته بتعيين قائد للجيش وبإعادة تشكيل المجلس العسكري.
أما العلاقة بين عون وقهوجي، فلم ينكشف توترها إلا مع التمديد الأول، وانفجر أكثر حدة مع التمديد الثاني، ومع اقتراب انتهاء ولاية العميد شامل روكز.
لن يعطي أحد عون ما يريد. لا أفق لحل مشكلة روكز، لا بل باتت شبه محسومة في اتجاه تقاعد قائد المغاوير، ولا سيما أن المطلوب بالنسبة إلى قيادة الجيش تحديد المعايير من أجل الترفيع إلى رتبة لواء، سواء أكان عدد المرشحين ثلاثة أم 24 ضابطاً. وفي المعلومات الأخيرة المستقاة من مصادر مطلعة على مسار المفاوضات، أن «كل عميد تنتهي خدمته، سيذهب إلى منزله، وهناك أربعة سيحالون قريباً على التقاعد وسيستقبلهم قائد الجيش قريباً مودعاً وشاكراً لهم خدماتهم في المؤسسة العسكرية».
لكن حدود اللعبة «العسكرية» لا تقف هنا، لا عند تسريح روكز ولا عند ترفيعه. فمنذ فترة طويلة لم يشهد الوسط السياسي، والمسيحي تحديداً، تسليط الضوء على الضباط الموارنة، كما يحصل الآن. منذ أشهر وأسماء الجنرالات تتردد على كل شفة ولسان. بات قادة الوحدات والأفواج، أو حتى المرشحون لهذه المناصب، معروفين بالأسماء والانتماءات، سواء أكانوا حاليين أم متقاعدين. الفورة الإعلامية والسياسية والعسكرية جعلت هؤلاء في مقدم الحدث السياسي: عمداء متقاعدون ومرشحون محتملون للنيابة أو للسياسة بكل وجوهها، ضباط مرشحون لتولي مناصب الخارجين من الخدمة، ليصبح السؤال اليوم كما لم يحصل سابقاً: من هو المرشح لخلافة روكز في فوج المغاوير، وهل سيستنسخ تجربة روكز الطويلة في العسكر وفي الإعلام؟
يسمي سليمان ومقبل العميد وديع الغفري لكل المواقع التي تشغر، وتسمي 14 آذار العميد مارون حتي لقيادة الجيش، ويقترح قهوجي العميد كميل ضاهر لمديرية المخابرات، ويسمي آخرون العميد ألبير كرم. حتى حين طرحت ترقية عمداء إلى الوية، بدأت أسماء الضباط الموارنة ترمى في أسلوب تنافسي لم نشهد له مثيلاً. كيف يمكن أن يرقى روكز ويترك كرم أو فاضل أو حتي، أو غيرهم من الذين يتولون مناصب متقدمة. تجربة الانتقال من اليرزة إلى بعبدا صارت مثالاً يحتذى، وتحول الضباط تارة بفعل الإعلام وتارة بفعل طموحات شخصية طبقة جديدة أسماؤها قيد التداول.
وسط كل ذلك يقول عون ورئيس التيار الوطني جبران باسيل، إن التظاهرة المقبلة ستكون وجهتها قصر بعبدا. من يحمي القصر؟ الجيش أم الحرس الجمهوري الذي من صلب مهماته حماية مقر القصر ومحيطه؟ ومن هو صاحب القرار بالحماية ويعطي الأوامر؟ قهوجي أم الغفري؟ وأين تقف حدود الأخير المتمتع بدعم مطلق من سليمان ومقبل، في زمن تصفية الحسابات؟
هو موسم أحلام الجنرالات وأوهامهم ومواجهاتهم المكتومة والمعلنة.