Site icon IMLebanon

الموارنة… في عيدهم

يُستحسَن لو يبتعد الموارنة في عيد شفيعهم عن جَلد الذات والكلام عن مظلومية تبدأ بالفراغ الرئاسي ولا تنتهي في «الحوض الرابع والكازينو»، من أجل التأمّل بأحوالهم والتفكير في ما إذا كان يُفترَض إدخال تغييرات على ممارستهم واستطراداً على دورِهم، أم الاستمرار في النهج نفسه.

في كلّ محطة دينية-وطنية تتجدّد الدعوات القلبيّة والصادقة من أجل أن يعمّ السلام ربوع لبنان، ويستعيد هذا البلد، الذي فقدَ سيادته واستقلاله، حضورَه ودوره، ولكنّ الأمور، ويا للأسف، تنزلق سنةً بعد أخرى نحو الأسوأ، ولا مؤشّرات تفيد عن إمكانية تحقّق حلم قيام الدولة، إلّا بالرهان على التطورات الخارجية، وهذا رهان خطير وسيّئ في آنٍ معاً، لأنّه إذا كانت خطورته تكمن بأنّ رياح التطوّرات قد تجري بما لا تشتهي القوى السيادية، فإنّ مساوئه هي أنّه يتحقّق على حساب شريحةٍ لبنانية شيعية واسعة لا يعني لبنان لها شيئاً، بل ترى نفسها جزءاً لا يتجزّأ من محور مقاومة، وبالتالي هذا الحلم بلبنان الدولة والسيادة والدور المحايد، إمّا يكون حلماً لبنانيا مشترَكاً أو لا يكون.

وفي هذا الوقت يبقى لبنان في حال من اللاحرب واللاسِلم، وفي ظلّ تراجُعٍ متواصل لمفهوم الدولة ودورها، وتحوّل الدستور بأفضل الأحوال إلى وثيقة سياسية قابلة للنقاش لا التطبيق، وتَغييب لدورية الانتخابات النيابية، والابتعاد عن الثقافة الديموقراطية، وتمنين الناس بالاستقرار الأمني مقارنةً مع دوَل الجوار، والابتعاد عن القضايا الخلافية الكبرى المتصلة بمصير البلد مقابل التركيز على الملفات الحياتية داخل حكومة تتعاطى الشأن السياسي من «بعيد لبعيد» تجَنّباََ لاهتزازات وخضّات وانقسامات.

ففي كلّ هذه الصورة أيّ دور للمسيحيين في لبنان؟ هل التمسّك بالدولة المركزية ولبنان الكبير الذي رفع فيه السُنّة شعار «لبنان أوّلاً» بعد 85 عاماً على قيامه؟ وهل يجب انتظار 85 سنة إضافية ليرفع الشيعة الشعار نفسَه؟ وهل التجربة بين عامَي 1943 و1975 كانت مثالية؟

وهل نجحت تجربة العيش المشترك قبل الحرب؟ وهل كان يمكن الحديث عن ردّة فعل واحدة، ورؤية واحدة، وأهداف واحدة؟ ولماذا الخجل من الإقرار بأنّ أحد أبرز وجوه الحرب هو الانقسام المسيحي-الإسلامي؟ وهل يمكن اختصار لبنان بتجربة 14 آذار؟

ولماذا الإصرار على تكرار خطأ العام 1920 بإنشاء دولة شريحة واسعة من اللبنانيين غير مؤمنين بها؟ ألم يحِن الوقت للاتّعاظ من تلك التجربة؟ وهل إنشاء الدوَل يتمّ بناءً على إرادة الشعوب أم على حسابها؟ ولماذا الإصرار على تجربة فعلاً فريدة، ولكنّها لم تنجح، لا قبل الحرب ولا بعدها؟ وهل العيش المشترك يكون قسرياً أم رضائياً؟

وإذا كان للعيش المشترك قاعدة أساسية وهي تنازُل الجميع لمصلحة المشترك بينهم، أي الدولة، فإنّ عدم التنازل يعني استحالة «العيش معاً»، فضلاً عن أنّ الطرَف الرافض للشراكة يسعى للاستئثار والتحَكّم بمصير البلد، كما يتّكئ على سذاجة خصمِه الذي ما زال يراهن على عودته إلى المشروع اللبناني أو الرهان على تطوّرات خارجية لا يبدو أنّها ستأتي.

فعلى المسيحيين في عيد شفيعهم التفكير جدّياً بالسؤال الآتي: هل صيغة العام 1943 واستطراداً «الطائف» قابلة للحياة؟ فإذا كانت كذلك ما عليهم سوى انتظار نتيجة المفاوضات الغربية-الإيرانية في الملف النووي، ومن ثمّ نتيجة المفاوضات الأميركية-السعودية-الإيرانية في ملف توزيع النفوذ الإقليمي. كما عليهم الأخذ في الاعتبار أنّ هذا الانتظار قد يطول جداً، لأنّ التعقيدات أكثر من أن تعَدّ وتُحصى. كما أنّ هذا الانتظار غير مضمون، لأنّ طهران لن تتخلّى عن ورقة «حزب الله» إلّا في حال انهيارها،

وهذا الانهيار لا يبدو واقعياً لاعتبارات عدة أبرزُها نجاح إيران بامتلاك أوراق قوّة، ومَيل الولايات المتحدة للتوازن السعودي-الإيراني والسنّي-الشيعي من أجل إدارة هذا التوازن عن بُعد، الأمر الذي يرجّح احتفاظ «حزب الله» بقدراته العسكرية من ضمن صيغة يحتفظ فيها بسلاحه «المقاوم» و«يتعهّد» في المقابل بعدم استخدام سلاحه الميليشياوي في الداخل، ما يعني «تيتي تيتي» استمرارَ الواقع نفسه بين دولة صورية، الدولة اللبنانية، ودولة فعلية، دولة «حزب الله»، ومَن يعتقد خلاف ذلك فما عليه سوى الانتظار، خصوصاً في ظلّ التمدّد الإيراني والانكفاء العربي…

وإذا كانت الإجابة بأنّ الصيغة الحاليّة غير قابلة للحياة للاعتبارات المشار إليها أعلاه والتي ستحُول دون قيام الدولة، خصوصاً في ظلّ انشداد فئة لبنانية إلى خيارات فوقَ دولتية وفوقَ لبنانية، فما على المسيحيين سوى المطالبة الواضحة والصريحة باللامركزية السياسية على غرار الشيعة في العراق واليمن، واللامركزية هي نظام سياسيّ لا يتناقض مع ميثاق العيش المشترك الذي يستمر بشكلِه الطبيعي، إنّما يؤدّي إلى ترييح الجماعات ويضمن الحفاظ على البعدَين الجغرافي والديموغرافي.

وعلى الرغم من أنّ هذا الخيار يُبقي قرار الحرب بيَد «حزب الله»، والدولة المركزية تحت سيطرته والمواجهة المفتوحة معه، إنّما هو خَيار لا بدّ منه، من أجل فصل تداعيات غياب الدولة على المسيحيين، حيث إنّ اللامركزية تحمي وجودهم بانتظار انتهاء الأزمة الإقليمية ومعرفة ما سيؤول إليه مصير هذا البلد.