Site icon IMLebanon

موارنة لبنان: لبنان الصغير أفضل!

لبنان الكبير بات محنة لهم. مساحته الصغيرة أكبر منهم. جغرافية المتصرفية، أكثر ملاءمة لديموغرافيتهم الشحيحة. الفدرالية، رقعة سياسية يجيدون الدور فيها، ولو على هزال. البدائل الكارثية في المشرق جرفت المسيحيين والأقليات، لم يبق للمسيحية السياسية وجود، إلا في «لبنان الصغير»، المهدد بطغيان الديموغرافيا المستفحلة والمكتظة في «لبنان الكبير».

إنه زمن البحث عن بدائل. الأوطان التي استقرت بعد سايكس ـ بيكو، لم تفلح في خلق مواطنة. ظلت الأوطان حلماً مشتهى. في المواطنة، يترسخ الانتماء. من دونها، تتشظى الهوية وتحتقن الأقوام والطوائف والمذاهب. المسيحيون في المشرق عاشوا في «الذمية السياسية»، تحت حماية السلطة والأنظمة المستبدة، لقاء ولاء ومنافع وحتى مفاخرة، أمام الأجانب، بأن «الدولة» حامية الأقليات… بزوال الاستبداد، أو تضعضعه في ميادين القتال، زال المسيحيون أو نزحوا. بات التاريخ صفصفاً، والأرض قاعاً وقعراً وفراغاً. هذا في المشرق، أما في لبنان، فالمسيحيون كانوا أم الكيان. ثم كان ما كان…

كان للمسيحيين مشروع سياسي، على بنوده، استُحضر الكيان. مبرر وجود لبنان هو حاجة المسيحيين إليه. تمسكوا به وعقدنوه. جعلوه كائناً مما قبل التاريخ. «قوميته» فينيقية، مرتكزاته حضارية ولا ينتمي إلى الصحراء، وهو ملجأهم ومحطة تواصلهم مع الغرب، فاعتبروه جسراً بين الشرق الذي هم فيه، والغرب الذي هو فيهم.

هذا زمن انتهى. حروب الإقليم وحروب لبنان، انقضّت على «لبنان الكبير» وعلى امتيازات الموارنة فيه. ما كان حكراً لهم، صار مجرد ظل عنهم. الرئيس ـ الملك، تحول إلى الرئيس ـ الحارس، الحارس للدستور والكيان والميثاق. رتبة مرموقة ولكنها بلا جدوى، في مرحلة افتراس الطائفية للدولة والكيان والمؤسسات، تعاظم القوة السنية المالية والإقليمية أخلّ بالتوازن. تنكُّب الشيعة دور المقاومة والممانعة والمحور الداعم لها، أفقد الكيان اختصاصه في «الحياد البنّاء» و «قوة لبنان في ضعفه».

زمن الطائف أثبت عدم جدارة القوى السياسية في نقل لبنان الطائفي إلى لبنان المواطنة. عدم جدارة مثبت في زمن الوصاية السورية وفي ما بعد ذلك الزمن. انقسم البلد وتم تقاسمه بين السنة والشيعة، فيما حصة المسيحيين متأرجحة بين ضفتي الصراع. قسم من المسيحيين يعوّل على تحالف مع السنة، وقسم آخر يعوّل على تحالف ودعم من قسم وازن من الشيعة. ما كان يشكو منه السنّة في زمن «المارونية السياسية»، صار معزوفة شكوى الموارنة بعد الطائف. شكوى المسلمين قبل حرب لبنان بالمشاركة في السلطة، باتت مطلباً استراتيجياً لدى فريق من المسيحيين، ممثلاً بالجنرال ميشال عون، ويهدد إذا لم ينفذ عقد «العيش المشترك».

التجربة اللبنانية ومسيرة الحياة السياسية في لبنان، أثبتتا أن الطائفية لا تعدل بين أتباعها. في «المارونية السياسية»، احتكر المسيحيون السلطات والمؤسسات الأقوى. احتكروا القرار في نظام رئاسي، ببرلمانية ممسوخة. مراراً، أخذت الرئاسة المارونية لبنان إلى التهلكة. بعد بشارة الخوري، استبد كميل شمعون انتخابياً وخارجياً. صادق الأردن وتركيا وإيران الشاه وعراق الإنكليز، أي كل من كان موطئاً للسياسة الأميركية. عادى العروبة وعبد الناصر والحركات القومية، فانفجر البلد. مع «الحلف الثلاثي» المسيحي مضى لبنان مسرعاً إلى الصدام مع السنية السياسية التي والت قضية فلسطين والعمل الفدائي.

ما يشكو منه المسيحيون اليوم، ذاق المسلمون طعمه مراراً. من نكد السياسة، أن أطلق كمال جنبلاط على رؤساء حكومات «المارونية السياسية» لقب «باش كاتب». نموذجه المذل، موقع وموقف رئيس الحكومة في زمن الاجتياح الإسرائيلي الذي مشى في صفوفه الأولى، «الرئيس» بشير الجميل.

الطوائف في السلطة، ظالمة ومظلومة، أما الشعب، فهو شعوب تدين بدين زعاماتها الطائفية وتصلي في السياسة خلفها.

المنطقة تتبدل. المناسبة تفسح للموارنة بالبحث عن بديل للبنان في لبنان. وجد الجنرال عون أن الفدرالية خشبة خلاص وهمية، وعصا غير غليظة يهدد بها، من دون أن يخيف أحداً. مشروع غير قابل للتفكير والتنفيذ، سبق أن تقدم به كميل شمعون وبيار الجميل في «ورقة عمل» إلى مؤتمر لوزان (1984)، خلصت إلى ما يلي: «التمسك بلبنان بحدوده الحاضرة… الاعتراف به مجتمعاً تعددياً وتطوير مؤسساته في اتجاه النظام الفدرالي الذي يلائم هذه التركيبة». ورقة عمل تخلى عنها شمعون والجميل بسهولة. مضمون الفدرالية راهناً، يتأسس على ما يلي: «إذا بات مستحيلاً أن تتمثل الطوائف بأقويائها، فليذهب كل في حال سبيله». راهناً، يتمثل المسلمون، سنة وشيعة، بأقويائهم، ويتهرب البعض من تمثيل القوي مسيحياً، في المركز الأول، وهو المركز الأضعف.

من قال إن الفدرالية تحل مشكلة الأقليات، أو مشكلة المسيحيين في لبنان؟ الخلاف بين الطوائف اللبنانية، ليس على الحصص، بل على الخيارات الخارجية. والفدرالية لا تلغي هذا الصراع، بل تمأسسه وتفجر «الكيان الموحد».

لا خوف من الفدرالية، لأنها بلا أفق. ولا خوف من الاستطلاعات داخل الطوائف المسيحية، لأنها «طواحين أصوات». لبنان محكوم بانتظار ما ستؤول إليه كوارث الحرائق في المشرق العربي.

أبواب بعبدا في عهدة غودو… فانتظروه.