ضمن مسلسل تخييب الأمل بالبرلمان اللبناني وبعض أعضائه تأجلت شهراً جديداً الجلسة المؤجلة أصلاً منذ 34 جلسة من أجل إنتخاب رئيس للجمهورية..
هذا التأجيل حدث في اليوم الـ 592 لخلو القصر الجمهوري من رئيسه المحسوم بموجب الصيغة والدستور أنه من حصة الطائفة المارونية. ولظروف ربما تكون على درجة من التعقيد لم تلحظ تلك الصيغة ولا الدستور أن يكون هناك نائب لرئيس الجمهورية يمارس إلى حين إنتخاب رئيس جديد صلاحيات الرئيس في حال حدوث فراغ كالذي نعيشه منذ أن غادر الرئيس العاشر (عدا الرئيسيْن المغتاليْن بشير الجميل ورينيه معوض) العماد ميشال سليمان القصر ربما لأن اللعبة السياسية الدولية – العربية – الإقليمية لم يتوافق أقطابها على إبقاء العماد سليمان رئيساً لسنتين كالذي ناله الرئيس الياس الهراوي والعماد اميل لحود، أو ربما لأن بدعة التمديد سنتين كانت أصلاً «فرْض واجب» على النواب اللبنانيين من جانب النظام السوري وعلى نحو فرْض إرادة مماثلة من النظام نفسه لترئيس الياس سركيس. وهذه البدعة سقطت بفعل زوال الهيمنة السورية على لبنان.
لو كان هنالك نائب رئيس للجمهورية وعلى نحو ما هنالك نائب لرئيس الحكومة ونائب لرئيس مجلس النواب، وتفادياً لقواعد اللعبة، يكون من الطائفة نفسها لما كان لهذا التعطيل للأحوال العامة سائداً على نحو ما يعيشه لبنان منذ أن خلا القصر الجمهوري من ساكنه ليبدأ البازار الترئيسي الذي يدفع فيه البازاريون بلبنان إلى مشارف أمر واقع غير مألوف وهو أن تكون الدولة من دون رئيس عاماً تلو عام إلى أن يرتب بعض الأطراف أوراقه أو يسدد إلتزاماته.
والذي يبعث في النفس مشاعر الإستهجان هو هذه اللامبالاة من جانب الخارجين على واجب ممارسة الدور الأساس في عملية إنتخاب رئيس الجمهورية، بالمناشدات التي يتواصل صدورها عن المرجعيات الروحية والتي وصلت إلى حدّ أنه في الوقت الذي كان مأمولاً أن تكون الجلسة البرلمانية الرابعة والثلاثون غير منقوصة الحضور وتنتهي ببشرى سارة، أي إنتخاب رئيس للجمهورية، كان المطارنة الموارنة يعقدون جلستهم الشهرية الكاملة الحضور يترأسهم كبير الطائفة البطريرك بشارة الراعي ثم يصدر عن هؤلاء المحترَمين بيان إعتبروا المبادرة الحريرية (وإن كانوا تفادوا ذِكْر الإسمين (إسم الرئيس سعد الدين رفيق الحريري وإسم القطب الماروني سليمان طوني فرنجية) بأنها الحل وإلاَّ فما معنى العبارة التي وردت في البيان وهي «إن لبنان يحتاج إلى حوار عميق وإن المدخل إلى هذا الحوار يكون بالتقيد بأحكام الدستور والميثاق الوطني فيما إنتخاب رأس للدولة ما يحصِّنها في وجه الإنهيار الذي يهددها، فإستمرار الإبطاء في إتمام هذا الواجب الدستوري يُفسح في المجال لتفسيرات لا تقف عند حدّ التأزم السياسي والصراع بين فريقيْن، بل تصل إلى حدود التساؤل عن مرامي هذه الأزمة في ما يتعلق بمستقبل الجمهورية ومصيرها. ولا يعتقد الآباء أن لأحد مصلحة في اللعب بمصير الجمهورية في هذه المرحلة من تاريخ المنطقة والعالم…» ثم يحسم المحترَمون رؤيتهم بالقول «لذلك لا بدّ من التعامل بجدية مع أي مبادرة في هذا الشأن…».
وفي لفتة عروبية أكثر منها كهنوتية يُشجّع الآباء على «قيام حوار جدي على مستوى القضية الفلسطينية فيستكمل المساعي السابقة عِلْماً أن حلاً لهذه القضية هو المدخل إلى حل كل أزمات المنطقة…».
وقبْل البيان ومفرداته التي أوردها المحترَمون في طيات عبارات لافتة، كان كبيرهم البطريرك الراعي يقول قبل ثلاثة أيام في أحدث عظاته التي لا تخلو من العتب على هذا الإستهتار في موضوع إنتخاب رئيس للجمهورية «إن الجماعة السياسية بلغت ذروة اللامبالاة بعدم إنتخاب رئيس للجمهورية فعطَّلت واجب التشريع في المجلس النيابي وواجب التدابير الإجرائية في الحكومة وزعزعت بالتالي السلام الأهلي إقتصادياً ومعيشياً ومصيرياً…». وبعد أن يستعمل عبارة «اللامبالاة القتَّالة» المتمثلة بـ «عناد الكتل السياسية والنيابية في الإحجام عن إنتخاب رئيس للجمهورية» يقترح «التمييز بين مبادرة إنتخاب الرئيس والإسم المطروح ومن الأفضل والأسلم ديمقراطياً الوصول إلى الجلسات الإنتخابية بمرشحين كما تصنع الدول الراقية…». وما لم يرِد في عظة البطريرك الراعي قاله كاثوليكوس الأرمن الأرثوذكس آرام الأول خلال قدّاس الميلاد لدى الطائفة الأرمنية الأرثوذكسية يوم الخميس الماضي بعبارة من نوع ما قل ودل هي «لا نستطيع أن نتخيل أن يبقى البلد بدون رئيس، وللأسف كل ما هو غير طبيعي يُعتبر في لبنان طبيعياً…».
ما أوردْتُه من عبارات لهذه المرجعيات الدينية المسيحية هو على سبيل المثال لا الحصر، فهؤلاء المحترَمون لا تخلو عظة لهم أو بيان بعد إجتماع من تسجيل الأسف على عدم إتمام إنتخاب رئيس للجمهورية. لكن أحدث ملامح الأسف هو قول المطارنة الموارنة في بيانهم الذي أوجزتُ بعض مضامينه «لا يعتقد أن لأحد مصلحة في اللعب بمصير الجمهورية في هذه المرحلة من تاريخ المنطقة والعالم…».
وهنا من حقي أن أتساءل كمواطن لبناني لا يرى سبيلاً لخلاص الوطن إلاَّ من خلال صيغة العيش المشترك والدستور والميثاق الذي بلوره وثبَّت روحيته إتفاق الطائف: إذا كان المحترَمون لا يعتقدون «أن لأحد مصلحة في اللعب بمصير الجمهورية» فما هو هذا الذي يمارسه بعض كُبراء الطائفة المارونية. أليس هو اللعب بعينه بمصير الجمهورية. إنه كذلك وأكثر. لكن هؤلاء يواصلون اللعب، بل والتلاعب أحياناً، لأن صوت المحترَمين ما زال لا يلمِّح إلى مقتضيات الحُرْم الكنسي، ودون مشارف التحذير من تضييع الحقوق المكتسبة للطائفة والذي منصب الرئاسة الأُولى هو ذروة الحقوق التي في حال بقي التلاعب على نحو ما يحدث منذ سنة وبضعة أيام قد تصبح عُرضة للتبهيت في الحد الأدنى وللإختطاف في الحد الأقصى.
وإذاً فبالعودة إلى المبادرة الحريرية خشبة خلاص، خصوصاً إذا نحن قرأْنا حيثيات المبادرة الحريرية وما قاله المحترَمون وكبيرهم البطريرك الراعي وإنتهت قراءتنا إلى أن هذه المبادرة تنجو من شباك اللاعبين بمصير الجمهورية، في حال إعتبر المحترمون وكبيرهم أن الجلسة البرلمانية الخامسة والثلاثين المحدَّد إنعقادها 8 شباط 2016 هي الجلسة الحاسمة. يُشارك فيها ليس فقط 86 نائباً تكفيراً عن الجلسة المخجلة التي حضرها فقط 37 نائباً، وإنما كل النواب ينتخبون فيها أحد إثنين أو ثلاثة أو فقط الواحد الذي كان ترشيحه الخجول بمثابة حجر رُمي في بركة ماء ساكنة. أما إذا تكررت الجلسة المخجلة فإن الحرص على مصير الجمهورية يستوجب تسمية غير الحريصين إسماً إسماً. ومن باب التذكير فإن يوم غد الخميس هو اليوم الستمئة لفراغ القصر الجمهوري من سيده المغيَّب، وهذا يعني أن برلمان لبنان سيدخل موسوعة «غينيس» مستحقاً صفة أنه أول برلمان في العالم لا يمارس دوره تجاه واجب وطني يحفظ للوطن هيبته ويتيح للمواطنين فرصة العيش مستقرين.