Site icon IMLebanon

الزواج في لبنان بين الواقع والمرتجى

 

الزواج الشرعي واشكالية الزواج المدني لدى المسلمين

 

 

عندما أرادت روما دمج الشعوب المغلوبة اليها قامت بضم آلهتهم الى مجموعة آلهتها وجعلتها ضمن المعتقدات الرئيسية التي تدين بها الدولة. هذا الدمج في العناصر الدينية غير المتجانسة وما رافقه من مسعى الى الإنصهار والتوسع لضم مجتمعات متعددة وأنظمة متعددة، نتج عنه انتقال المجتمعات من قبلية بدائية الى اتحادية وأدى إلى إنصهار وطني متماسك يعترف بخصوصيات كل مكونات الشعوب المنضوية تحت هذه الإتحادات. هذه السياسات الإندماجية توقفت عند ظهور اليهودية كدين حصري للعبرانيين، واستمر في تقهقره مع مسيحية العصور الوسطى حيث كان ينظر الى وجود التنوع الديني كعلامة ضعف للمجتمع المسيحي الذي كان يعتبر وحدوية المجتمع انعكاساً لجسد المسيح ، فكما للمسيح جسد واحد كذلك المجتمع لا يتصور الا ان يكون مجتمعا واحداً. هذه النظرة لم تتغير في المسيحية الى أن جاءت مقررات المجمع الفاتيكاني الثاني الذي أقر بالتعددية الدينية. وعندما بزغ نور الإسلام اعترف منذ البداية بالتنوع الديني واعتبره تنوعاً طبيعياً أراده الله تعالى ونادى بأحقية غير المسلمين في إدارة مؤسساتهم الدينية وما يتبعه من استقلالية في نظام في احوالهم الشخصية.

 

هذه النظرة التي قال عنها Levi-Strauss بأن الإسلام يعتبر مخترع التسامح الديني في الشرق الأوسط هي التي جعلت من لبنان دولة متعددة الطوائف والشرائع يخضع أبناء الطوائف فيه إلى قوانين طوائفهم الموروثة فيما يخص نظام أحكام أحوالهم الشخصية، فحافظوا بفضل هذه الإستقلالية على وجودهم ولم يذوبوا في محيط المجتمعات الإسلامية كما كانت الحال لكثير من الشعوب الأخرى في دول الغرب.

 

استمرت هذه الإنطمة خلال فترة الحكم الإسلامي وفي فترة الإنتداب الفرنسي حيث دُعمت ثوابت النظام الطائفي اللبناني بشكل أدهش دعاة الفكر العلماني في حينها، إذ لم يشأ فرنسيو الإنتداب بل ولم يستطيعوا تغيير هذا النظام، وهم الذين ينتمون إلى النظام العلماني. ومما وافق دعائم النظام التعددي في لبنان هو أن الفقرة الأولى من المادة السادسة من شرعة الإنتداب الصادرة عن عصبة الأمم في 24 تموز 1922 فرضت على الدولة المنتدبة إنشاء نظام قضائي جديد يكون منطوياً على احترام وضمان نظام الأحوال الشخصية لأهالي سوريا ولبنان ولمصالحهم الدينية المختلفة، كما حظرت المادة التاسعة منها على سلطة الإنتداب التدخل في إدارة الطوائف الدينية ومجالسها ومعابدها التي تبقى حصاناتها السابقة مكفولة بنص صريح. غير أن سلطة الإنتداب الفرنسي سلخت من نطاق تطبيق الشريعة الإسلامية في المحاكم الشرعية كثيراً من الإختصاصات وجعلتها ضمن اختصاصات المحاكم المدنية .

 

هذا الخوف والحذر ما زال الى الآن هو سيد الموقف في الأوساط الإسلامية من محاولة سلخ آخر معقل للشريعة الإسلامية في مسائل الأحوال الشخصية وجعله ضمن اختصاص المحاكم المدنية. قد تكون فكرة الزواج المدني للوهلة الأولى جذابة ومواكبة للتقدم ولمتطلبات العصر، ولكن خطرها كما يقول المسلمون في ارتداداتها المستقبلية على صعيد التماسك الأسري والإجتماعي. لن تقف هذه التغييرات على عتبة الزواج المدني بل ستتعداه لاحقاً وحتماً على صعيد التكوين الأسري والمفهوم الشرقي للعائلة بمكونه المسيحي الإسلامي. منذ أسابيع قليلة كانت المسألة المطروحة بقوة في البرلمانات الاوروبية هو حذف لكلمة الأب والأم في القوانين والأنظمة بحيث تحل محلهما كلمة الأهل (1) و (الأهل2)، وذلك كنتيجة حتمية لإقرار زواج المثليين، القائم على فكرة الحرية الشخصية. والآن وقد أقرها المشرع الفرنسي فلم يعد لديهم غريباً أن يكون للطفل عدة آباء يتواكبون على تربيته عند كل تغيير لمزاج والده الطبيعي في اختيار الشريك الذكوري في حياته بعيداً عن الحاجة الفطرية للطفل في الإحساس بدفء وحنان الأمومة، وكذلك الأمر بالنسبة لوجود إمرأتان متزوجتان من بعضهما البعض وترغبان في إنجاب طفل أو أكثر فتحبل إحداهما من متبرع مجهول فتلد طفلاً يتعهدانه في نفس الوقت بعيداً عن الحاجة الفطرية للإحساس بالرعاية الأبوية. لقد بات رائجاً في مثل هذه المجتمعات مفاهيم متنامية ومتطورة عن الحرية الشخصية (وهو ما ينادى به من أجل تبرير الزواج المدني) بعيدة كل البعد عن مفهوم الحياة الأسرية المشرقية. إن الوضع المأساوي والمخيف للتفكك الأسري في العالم الغربي يستدعي منا أن نفكر ملياً في مشروع نبنيه على أساس احترام الحرية الشخصية. إن هذه الحرية هي بمثابة كرة ثلج إذا لم توضع لها الأطر الصحيحة والداعمة فإنها ستتدحرج وتطيح بكل المقومات والمفاهيم المتوارثة عن العائلة والترابط الأسري والمجتمعي.

 

لذلك قد نكون أقرب إلى الواقع أن نتحدث عن منظومة الزواج الديني ومنظومة الزواج المدني إذ أن المعني في هذا المجال ليس الزواج بحد ذاته فقط وإنما النظرة الشمولية للأسرة في كلا المنهجين. فمن الجانب الإسلامي لا نستطيع القول بأن الزواج هو عقد مدني بين طرفين عاقلين بالغين فقط ، بل هو في الأساس عقد رضائي يهدف الى الإستمرارية لما بعد العقد من ناحية أنه يرتب آثاراً وحقوقاً وواجبات كالنفقة والطاعة، والعشرة بالمعروف، وحقوق الزوجة والزوج، ومحاولات الصلح بين الزوجين تفاديا للوصول إلى الطلاق، ومسؤولية الأولاد، والعدة، والإرث، … فالزواج ليس سراً من الإسرار يقتضي إجراؤه في المسجد بحضور رجل دين مسلم يختتم بالقول : ” أعلنكما زوجاً وزوجة” بل هو ينعقد فقط بالإيجاب والقبول من قبل الطرفين فليس لوجود رجل الدين أي أثر على الزواج إلا من ناحية توثيقه كأي موظف معتمد في دوائر التوثيق في الدولة.

 

لذلك لا يوجد تعارض كبير من الناحية الفقهية في جوهر العقد المدني والعقد الشرعي الإسلامي للزواج فليسا في جوهرهما من العقود الدينية بل هما من العقود الرضائية التي تعقد بالإيجاب والقبول ووجود الشهود. غير أن الإسلام أضاف إلى عقد الزواج إمكانية وضع شروط وبنود يتم التوافق عليها مسبقاً لحماية المرأة بشكل مخصوص أو لمحاولة استباق الحلول في حال وقوع مشاكل زوجية، أو بكل بساطة لحسن إدارة حياتهما الزوجية. من الشروط التي يمكن إضافتها لعقد الزواج : التزام الزوج بعدم الزواج من امرأة ثانية، تطليق المرأة نفسها بنفسها دون الرجوع الى إرادة زوجها، عدم متابعة الزوجة لزوجها في حال أراد الاستقرار في دولة أجنبية للعمل، تحديد نفقات إضافية لها، مواصفات بيت الزوجية وموقعه، حقها في تأمين خادمة منزلية، تحديد سن الحضانة والمشاهدة في حال الإنفصال والطلاق، الى ما هنالك من شروط كثيرة يمكن إضافتها في عقد زواجهما. هذه الشروط المعتبرة والتي هي من أجل إيجاد حلول استباقية تضفي على منظومة الزواج في الإسلام طابعاً راقياً جداً يقوم على احترام إرادة الزوجين معاً، قل نظيره في الأنظمة الحديثة. ناهيك عن تعددية الآراء الفقهية التي تستوعب كافة الحلول القضائية الممكنة والمطروحة على صعيد الخلافات الزوجية أو لتأمين حسن إدارة الحياة المشتركة بين الزوجين ويتوافق مع متطلبات كل عصر من العصور. على سبيل المثال ما ذهب اليه القاضي ابن عرضون المغربي في القرن السادس عشر من أحقية المرأة العاملة في اقتسام أملاك زوجها مناصفة في حال وفاته أو في حال طلاقها منه. يضاف إلى هذه المنظومة القائمة في المحاكم الشرعية سهولة إجراءات التقاضي وخضوعها للرسوم التي تفرضها الدولة كمثيلاتها في الدعاوى المدنية تماماً. ناهيك بأن الواردات في صناديق المحاكم الشرعية تصب مباشرة في خزينة الدولة.

 

غير أن التعارض مع منظومة الزواج المدني فترتكز على مخالفة هذا الأخير لبعض الأمور الفقهية التي نص عليها الفقهاء في أحكام الزواج والطلاق والعدة والنسب ، من بينها:

 

1- إهمال مانع اختلاف الدين في الزواج . اذ يجوز فيه للمسلمة أن تتزوج غير مسلم كما يجوز للمسلم أن يتزوج من هندوسية او مجوسية او ملحدة .

 

2- إغفال قرابة الرضاعة، وعدم اعتبارها مانعاً من موانع الزواج. اذ يجوز فيه للرجل ان يتزوج من اخته من الرضاعة

 

3- الغاء حق المهر للمرأة في شطريه المؤجل والمعجل

 

4- اباحة التبني في حين أن الإسلام ينادي بكفالة اليتيم والإحتفاظ بنسبه من والديه الحقيقيين

 

5- منع تعدد الزوجات، مع الأخذ بعين الإعتبار أن الإسلام يحرص بزواج الرجل من امرأة واحدة، وأن للزوجة الحق في اشتراطها عدم زواجه من أخرى.

 

6- جعل مدة عدة المرأة غير الحامل ثلاثمائة يوم، في حين أن الإسلام جعلها لمدة ثلاثة اشهر

 

إضافة الى أن هناك بعض الأسباب التي تدفع أنصار الزواج المدني إلى المناداة باعتماده إلزاميا أو اختياراً من ضمنها :

 

1- المساواة بين اللبنانيين أمام القانون وتثبيت الإنتماء الى الدولة بدل الإنتماء الى الطائفة

 

2- عدم تطور المحاكم الشرعية والروحية والحملات الإعلامية التي تتكلم عن فسادها دون الأخذ بعين الإعتبار ما تتعرض له كل مؤسسات الدولة من فوضى عارمة في التنظيم والإجراءات المتبعة

 

3- التطبيق الخاطئ للدين من قبل كثير من الأزواج الذين يتقنون فن إخضاع المرأة لمفاهيمهم وأهوائهم الشخصية باسم الدين، مما يدفع البعض إلى توظيف تلك المفاهيم لخدمة طروحاته في الزواج المدني وغيره ومحاولة تبريرها.

 

4- التخفي وراء نقد منظومة الزواج الديني للوصول إلى إقامة الدولة المدنية في حين إن الذي يقف حجر عثرة أمام الدولة المدنية ليس هو الدين بل الطائفية، فالذي يجب أن يعمل عليه هو استعداء الطائفية وليس الدين.

 

5- رفض الدين وإقصائه من الحياة التشريعية : حيث أن البعض ولموقف فكري من الدين ومفاهيمه وأحكامه يريد إقصاء ما تبقى للدين في ميدان التشريع.

 

غير أن مسألة طرح مسألة الزواج المدني في لبنان بمعزل عن تغيير طبيعة نظامه الطائفي هو طرح مخالف للمبادئ والأسس التي قام عليها الدستور اللبناني وهو أشبه ما يكون متعارضاً مع المبادئ والأسس الفوق دستورية.

 

إن النظرة القانونية لموضوع إقرار الزواج المدني، يتعارض مع إطار النظام التعددي في لبنان. ولا يعتبر إجراءً مشروعاً إلا من خلال تغيير النظام اللبناني وقيامه على أسس دستورية جديدة تجعل من نظامه نظاماً علمانياً صرفاً، وليس من خلال تعديل قانوني يصدره مجلس النواب أو المراسيم الحكومية· فنظام الأحوال الشخصية في لبنان يستمد مشروعيته من الميثاق الوطني ومن نص المادة التاسعة والتاسعة عشر من الدستور اللبناني وهو يعتبر جزءاً من النظام العام ومن النظام السياسي الذي يصنف من الأنظمة المتعددة الطوائف Multiconfesionnel.

 

إن المعطيات القانونية والتاريخية ومن ضمنها تلك التي تعلقت باحترام نظام الأحوال الشخصية في لبنان هي التي أدت الى نشأة دولة لبنان وهي التي أسست نظامه التعددي الطائفي والتي قام على أساسها الدستور اللبناني. تماماً كما هي حال المبادئ التي قامت عليها الثورة الفرنسية بحيث اعتبرت هذه المبادئ العلمانية التي تبنتها فرنسا مبادئ فوق دستورية·

 

فمشروع تعديل قانون الأحوال الشخصية في لبنان لا يمكن أن يطرح كأي تعديل قانوني في مجلس النواب وإنما يتعين على أصحاب هذا المشروع العلماني على افتراض أنهم أصبحوا الأغلبية في لبنان اتباع الإجراءات التي تتخذ لتعديل النظام الطائفي وتحويله الى نظام علماني.

 

هذه الإجراءات تشابه من حيث الفرضية البحتة تعديل مبدأ أساسي داخل الأنظمة العلمانية كإقرار الزواج الديني إلى جانب الزواج المدني. فعلى سبيل المثال لو تقدمت الكنيسة بمشروع مماثل في دولة ذات نظام علماني كفرنسا يجيز الزواج الديني الاختياري ويعترف بمفاعيله القانونية أمام الدولة فأول ما سيتبادر الى ذهن الخبراء الدستوريين والنواب الفرنسيين في الرد على هكذا مشروع هو بأن النظام العلماني لا يسمح بهذا الطرح، فالمبادئ الأساسية والفلسفية التي قامت عليها العلمانية تعتبر فئة قانونية مميزة تنتمي الى فئة المبادئ فوق الدستورية، وبالتالي فإن وضع مثل هذا الاقتراح لا يمكن ادراجه تحت إطار التعديلات المتبعة لتعديل القوانين والدساتير·

 

إن بعض الدساتير قد أقرت عدم قابلية بعض المبادئ القانونية للتعديل بالطرق الدستورية المعتادة من ضمنها : مبدأ الفصل بين السلطات في الدولة، مبادئ العلمانية (والتي من ضمنها مبدأ الفصل بين الدين والدولة، والزواج المدني الإلزامي)، مبادئ الأنظمة الديمقراطية والجمهورية، المبادئ التي تقوم عليها الأنظمة الفدرالية، مبادئ الأنظمة ذات النظام الملكي، بحيث يمكن القول بأن هذه المبادئ فوق الدستورية هي عبارة عن مجموعة من القواعد التي تضمن استقرار الأنظمة التي نشأت وتأسست عليها·

 

إن قراءة سريعة لمقومات النظام اللبناني تثبت انتمائه إلى فئة مميزة وخاصة جداً من الإنظمة السياسية، وكما يقول الدكتور ادمون رباط بأن تميز هذا النظام يجعل منه حالة فريدة من نوعه sui generis من حيث تصنيفه كنظام متعدد الطوائف، وهو نوع مستقل عن بقية الأنظمة السياسية وله خصوصيته ومكانته ومبادئه من بين باقي الأنظمة السياسية، فطبيعته القانونية القائمة على الإعتراف واحترام أنظمته في الأحوال الشخصية تجعل من هذا النظام أشبه ما يكون إلى المبدأً فوق دستوري منه إلى فئة القوانين الصادرة عن مجلس النواب. هذا الإعتراف أكدته الإتفاقيات التاريخية منذ الفتح العربي للبنان مروراً بالأمويين والعباسيين والعثمانيين، وصرحت به مواثيق عصبة الأمم والأمم المتحدة بل وقامت بالتذكير بمبادئه الثابتة في كل مرة حاولت سلطات الإنتداب الفرنسي تغيير واقعه عن طريق فرض الزواج المدني، بل وعمت المظاهرات المناهضة له من قبل الطوائف اللبنانية وخاصة الإسلامية، وقد رضي المسلمون في ذلك الوقت بالدخول في منطق الدولة واعتبارهم طائفة كسائر الطوائف بشرط احترام قوانين احوالهم الشخصية وعدم المساس بها، فلا يكون تعديل نظامه ممكناً دون المساس بجوهر التكوين السياسي والقانوني للبنان

 

بيد أن هناك مشروع ثالث لا يعبر بطبيعة الحال الا عن رأيي الشخصي وليس عن رأي المؤسسة القضائية التي انتمي اليها. هذا الطرح والذي أحببت ان افصح عن بعض معطياته في مقدمة مداخلتي عند الحديث عن ضم روما لآلهة الشعوب الأخرى داخل هيكل واحد Panthéon، ينطلق من فكرة دمج كل الأنظمة المطبقة في لبنان ضمن محكمة واحدة للأحوال الشخصية حيث تكون الدولة هي الراعية والمرجع الأعلى لكل اللبنانيين. دون اللجوء إلى الفكرة العقيمة في إلغاء المحاكم الروحية والشرعية فيُقترح توحيد هذه المحاكم في إطار محكمة الأحوال الشخصية التي تتوزع على الأراضي اللبنانية وتضم فيها قضاة روحيين وشرعيين وقضاة مدنيين منتدبين من قبل الدولة لإجراء عقود الزواج للبنانيين الذين لا يرغبون في إجراء عقود زواجهم لدى المراجع القضائية الدينية. يكون من حق المنتمين إلى الطوائف المسيحية الإلتجاء إلى قوانين إحدى المحاكم الروحية المسيحية المتعددة التي يرغبون المقاضاة أمامها ولو كانت من غير مذهبهم دون أن يؤدي ذلك إلى تغيير انتمائهم إلى طائفتهم الدينية، وكذلك الأمر يكون من حق المنتمين إلى الطوائف الإسلامية الإلتجاء الى قوانين إحدى المحاكم الشرعية دون أن يؤدي ذلك إلى اضطرارهم لتبديل طائفتهم. بهذا الإجراء يتمكن المسيحي الكاثوليكي من حل الرابطة الزوجية لدى قانون الطائفة المسيحية الأكثر سهولة في تسهيل عملية حل وإبطال زواجه، دون اضطراره الى اعتناق الدين الإسلامي أو تغيير مذهبه الى طائفة مسيحية أخرى. كذلك الأمر بالنسبة للمسلمين السنة مثلا الذين يرغبون بتوريث بناتهم على المذهب الجعفري حيث يتمكنوا من تقسيم التركة وفق المذهب الجعفري دون اضطرارهم الى تغيير طائفتهم. وكذلك بالنسبة للشيعة الذين يرغبون في تحديد سن حضانة أولادهم وفقاً للمذهب السني. ولحل معضلة تنازع القوانين بين الزوجين في حالة رغبة أحدهما في الذهاب الى محكمة والآخر الى محكمة أخرى، يتعين عليهما عند إجراء مراسم زواجهما تحديد القوانين التي يختارونها لحل مشاكلهم الزوجية أو الإرثية، و إجراء التعديل عليها بالتوافق خلال حياتهما الزوجية.

 

إن المشكلة التي يعاني منها أبناء الطوائف الإسلامية والمسيحية على حد سواء هي في انتقال إبنائها الى المذاهب الأخرى ليس لعدم ايمانهم بالمبادىء الدينية لطوائفهم وإنما لاصطدامهم بالقوانين والأنظمة الخاصة بطوائفهم والمتعلقة بتنظيم حياتهم الزوجية وما ينتج عنها من خلافات ونزاعات. وكذلك الأمر بالنسبة لبعض اللبنانيين الذين لا يرغبون بعقد زواجهم لدى المرجعيات القضائية الدينية فيكون ذلك منفساً لهم في إجراء عقد زواجهم لدى السلطات القضائية المدنية المنتدبين من قبل الدولة دون الإلتجاء الى دول تعتمد الزواج المدني. كل ذلك دون الإفتتات من حق المرجعيات الدينية القضائية من ضبط كافة معاملات الأحوال الشخصية من أجل ضمان وتعزيز قيم العائلة المشرقية بشقيها المسيحية والإسلامية وعدم الإنجرار وراء الأهواء والغرائز التي أدت في الدول الغربية الى تفكك الأسرة والمجتمع.

 

إن هكذا مشروع سيحد بطبيعة الحال من التغيير والانتقال من دين الى دين ومن طائفة الى أخرى عن طريق الغش والمخادعة، وكذلك الأمر بالنسبة للذين يصرون على إجراء عقود زواجهم في الدول التي تعتمد الزواج المدني من السفر الى الخارج.

 

على أننا نوضح استطراداً بأنه من الجانب الإسلامي لايحكم بردة المسلمة التي تزوجت من غير مسلم إلا إذا صرحت بخروجها عن الدين الإسلامي واعتناق الدين الآخر، وبذلك تحتفظ بديانتها مع اعتبارها عاصية كما تحتفظ بحقها في الميراث من أهلها المسلمين. وكذلك الحال بالنسبة للمسلم الذي يتزوج بمن لا دين لها يعتبر مسلماً عاصيا رغم ذلك إلا إذا صرح بردته عن الإسلام.

 

إن هذا المنحى الذي أشرت إليه يحتاج الى كثير من التفكير والتعمق والدراسة. وقد اردته نافذة تطل على مفاهيم التطور والعصرنة – دون التخلي عن القيم والمبادئ الدينية التي نؤمن بها إيمانا راسخا – هي من أجل السعي في إيجاد الحلول لمشاكل اللبنانيين المتعلقة بمسائل أحوالهم الشخصية وعدم الإكتفاء برفض أو فرض وجهة نظر آحادية. إن هذه الحلول يجب أن تكون ضمن إطار العائلات الروحية التي يتشكل منها لبنان مع الأخذ بعين الإعتبار ضرورة الحد من التحايل على قوانين الطوائف من خلال معاملات تبديل الدين، وأيضاً دون الإخلال بأن تكون هذه الحلول التي تعتمدها الطوائف متوافقة مع بناء الدولة العصرية التي تنشد وحدة أبناء هذا البلد وعيشهم الواحد المشترك الذي لا يرضون بغير هذا العيش وبغير هذا الوطن بديلاً·