Site icon IMLebanon

زواج المصلحة بين ألمانيا وأوروبا

n

هل تستطيع ألمانيا إنقاذ أوروبا من دون الهيمنة عليها؟

هذا السؤال يفرض ذاته اليوم بعد انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، بما كانت تمثله من رمزية في تحقيق توازن القوى داخل الاتحاد.

لم يكن الانسحاب البريطاني العامل الوحيد الذي اضعفَ الاتحاد وأبرزَ الدور الاستثنائي لألمانيا. هناك عوامل عدة أخرى من أهمها حالة الترهل السياسي الاقتصادي التي تمر بها فرنسا.

فالرئيس فرانسوا هولاند لا يتمتع الان إلا بنسبة 13 بالمائة من تأييد الفرنسيين له، بحسب استطلاعات الرأي. كذلك فإن شعبيته داخل الحزب الاشتراكي تراجعت بنسبة كبيرة. وبالمقابل ارتفعت أسهم الجبهة الوطنية اليمينية المتطرفة بزعامة ماري لوبان التي تطالب بإجراء استفتاء شعبي على غرار الاستفتاء البريطاني لتقرير مصير عضوية فرنسا في الاتحاد الأوروبي. يضاف الى هذين العاملين السياسيين، عامل اقتصادي مهم يتمثل في تراجع الاقتصاد الفرنسي وتراجع معدل النمو.

في الاساس قام الاتحاد الأوروبي على قاعدة تفاهم ألماني فرنسي. فاذا كان أحد ركني هذا الاتحاد متصدعاً سياسياً واقتصادياً، فإن ذلك يعرّض الاتحاد ذاته للتصدع أيضاً، الا اذا بادرت ألمانيا الى لعب دور استيعابي وانقاذي للاتحاد. من هنا السؤال: هل تتحمل أوروبا دوراً ألمانياً قيادياً؟ تتداول المجتمعات الأوروبية صيغة مختلفة لهذا السؤال. وتستبدل الصيغة الأوروبية عبارة الهيمنة والقيادة بعبارة الاستيعاب والانقاذ.

تعرف المانيا جيداً الحساسية الأوروبية من اي دور مميز تقوم به. ولذلك فهي تحرص دائماً على أن يكون دورها ملتزماً داخل اطار العمل الجماعي، وأن تكون قراراتها جزءاً من قرارات أوروبية جامعة ومجتمعة. ولكن أوروبا اليوم ليست أوروبا الأمس القريب. إن انسحاب بريطانيا وتراجع فرنسا فرضا حالة جديدة لا تستطيع معها ألمانيا الا ان تقوم بما كانت تتجنّب القيام به منفردة منذ انشاء الاتحاد.. وإلا فإن على الاتحاد السلام. 

يعزز من هذه المخاوف مظاهر مستجدة عديدة أخرى من ابرزها صعود الاحزاب اليمينية المتطرفة في عدد من الدول الأوروبية الأعضاء في الاتحاد وخاصة (اضافة الى فرنسا) في هولندا وبلجيكا وكذلك في بولندا والنمسا.

ففي بولندا فاز بالسلطة منذ عام 2015 حزب القانون والعدالة وهو حزب يميني متطرف. وفي النمسا خسر المرشح الرئاسي نويرت هوفر والذي يوصف بأنه هتلر جديد (هتلر نفسه هو من مواليد النمسا، ولا يزال البيت الذي ولد فيه قائماً ومحافظاً عليه حتى اليوم) بعدد قليل جداً من الأصوات. 

وحتى في المانيا ذاتها اشتد ساعد المعارضة الألمانية ضد المستشارة انغيلا ميركل. وسوف تكشف الانتخابات التي ستجرى في العام القادم الحجم الحقيقي لهذه المعارضة وما اذا كانت قادرة على الإطاحة بميركل وحزبها الحاكم.

وبانتظار ذلك تجد ألمانيا اليوم ذاتها امام موقف هو من أصعب المواقف السياسية التي واجهتها منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية. فاذا تراجعت عن دورها وانكفأت كغيرها من الدول الأوروبية، فقل على الاتحاد الأوروبي السلام. فهل تتحمّل ألمانيا المسؤولية التاريخية عن اتخاذ موقف يؤدي الى هذه الكارثة السياسية الجديدة في التاريخ الأوروبي؟ واذا لم تتراجع، واذا أقدمت المستشارة ميركل على تحمّل مسؤولياتها في انقاذ الاتحاد وقيادته، فهل تتقبّل الشعوب الأوروبية ذلك؟ أي هل تستطيع الشعوب الأوروبية أن تتحمل قيادة ألمانية مرة جديدة؟

حاولت المانيا أن تفرض ذاتها قوة مهيمنة على أوروبا مرتين في التاريخ الحديث. وفي المرتين تسببت في قيام حرب عالمية دامية ومدمرة: – الحرب العالمية الأولى، ثم الحرب العالمية الثانية. ولم تشعر أوروبا بالارتياح الا خلال فترة تقسيم المانيا (الى شرقية وغربية). ولكن عندما توحّدت من جديد بعد سقوط الاتحاد السوفياتي في عام 1989 (برمزية تدمير جدار برلين) عمّ القلق كل الدول الأوروبية، وخاصة فرنسا. ولم يتبدد هذا القلق الا في ظل الاتحاد الأوروبي الذي جعل من ألمانيا مجرد زائد واحد الى عدد الدول الأعضاء.

أما الآن فان الاتحاد بدأ يتهاوى ويترنّح تحت الضربات الشديدة التي تلقاها بانسحاب بريطانيا، وبضعف فرنسا، وباستقواء قوى اليمين المعارض لسياسات الاتحاد في هولندا وايطاليا وبلجيكا واللوكسمبورغ (وهي بقية الدول المؤسسة).

ادراكاً من ألمانيا لهذه الحساسيات التي تتجذّر في النفسية الأوروبية وفي التاريخ الأوروبي المعاصر، عمدت المستشارة ميركل فور اعلان خروج بريطانيا من الاتحاد الى دعوة رؤساء حكومات الدول المؤسسة الى اجتماع طارئ. كانت نتائج الاجتماع مهمة اذ انها اقرت المحافظة على الاتحاد والدفاع عن وحدته. الا ان ما هو أكثر أهمية ان الاجتماع عقد في فيلا بورسينغ، وهي الموقع التاريخي في برندنبورغ الذي اجتمعت فيه الحكومة الألمانية الأولى بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية مباشرة لإقرار خطط انسحاب قوات الحلفاء ومواقع تمركزها.

فمن خلال تلك الدعوة، وجهت ألمانيا رسالتين الى حليفاتها الأوروبيات. الرسالة الأولى هي انها تتحمل مسؤولياتها ليس فقط كدولة مؤسسة، ولكن كدولة رائدة في الاتحاد. اما الرسالة الثانية فهي انها تعرف ان لريادتها حدوداً تلتزم بها ولن تتجاوزها.. وهي الحدود التي ترسمها رمزية مكان الاجتماع في فيلا بورسينغ.

قد لا يكون الزواج الألماني مع أوروبا عن حب. ولكنه على الاقل زواج مصلحة والمصلحة مستمرة.