الخطوبة في 22 كانون وجو وسحر في القلب والبال
رأيناهما يذرفان الدموع. لا، لا، رأيناهما يذرفان الدماء مع الدموع. يتحلّيان بالصلابة لكنهما من أنقياء القلوب. ومن له قلب نقي لا يعرف الظنّ السيئ لكنه يخلص لقضيته حتى الموت. ويليام نون وماريا فارس، شقيق جو وشقيقة سحر، قالا نعم لبعضهما البعض ويضعان يوم الخميس، في 22 كانون هذا، قبل يومين من ولادة الطفل يسوع، محبسَيّ الخطوبة. محبسا ويليام وماريا دلالة على أن الحبّ سيبقى الى أبد الآبدين أقوى من الموت. وهما، في حبهما، أكدا أن الإنسان يحتاج الى ثلاثة: شخص يحبه، شيء يفعله، وشيء سيعمل، بكلِ ما أوتي من قوّة، على أن يفعله.
تسمعون عن عصافير الحبّ. نحن التقيناهم. يضحك لها فتبتسم. تبتسم له فيرقص قلبه فرحاً. لم نرَ ويليام نون، منذ شاهدناه لأول مرة يبحث عن شقيقه جو بين الركام، كما كان البارحة. ماريا غيّرت الكثير فيه. أعطته حباً جارفاً وأعطاها أماناً كبيراً. نتركهما يجولان في «نداء الوطن»، كما في منزليهما. نراقبهما معاً. نُحدّق في عيونهما، في الحبّ الذي في عيونهما، فنتأكد أن أجمل حبّ هو الذي يعثر عليه الإنسان أثناء بحثه عن شيء آخر. هما – مع كل أهالي ضحايا المرفأ- بحثا طويلاً، ويستمران في البحثِ عن الحقيقة، وأثناء ذلك وجدا بعضهما. وجدا الحب. حبّ ويليام وماريا. ووجدنا نحن بعض الفرح في أقسى ما قد يعيشه شعب.
سحر وجو يومياً في يوميات العائلتين، وفي عقلي وقلبي ماريا وويليام، لكن، تعترف ماريا، أنها «من وقت ما فلّت سحر حلمتُ بها ثلاث مرات فقط». هي تصلي لتراها في الأحلام وتقول: «لم ننسها لحظة. هي بيننا على وقع الثواني. وفي العيد نستفقدها كثيراً. وهذا العيد بالذات همستُ لها، أمام قبرها، بمجموعة أسئلة. قلتُ لها: هل أنتِ «مبسوطة»، فرحة، لارتباطنا أنا وويليام؟» وتستطرد: «أنا واثقة، مثلي مثل ويليام، أن ما يريده ملاكانا في السماء سيحصل».
عيد الميلاد يقترب. الميلاد فيض من حبّ. فلنكثر في الكلام عنه. ما هي حكاية حبّ ويليام الديناميّ جداً وماريا الهادئة جدا اللذين كسرا قاعدة: لقاء فابتسامة فسلام فكلام فموعد فلقاء… لقاؤهما استمر حزينا طويلاً طويلاً. كيف كانت البداية؟ يجيب ويليام بعفويته: «في البداية، يوم التقينا وجهاً لوجه، في جلسة علاج نفسي في بكفيا، بعد ثلاثة أشهر من تفجير مرفأ بيروت، كانت تبكي كثيراً. هي تبكي وأنا اعطيها محارم ورقية لتمسح دموعها. لفتتني دائما وسألت عنها رفيقتها، عما إذا كان هناك شاب في حياتها. أجابتني نعم. وأنا كنت أيضا مرتبطاً. لكن، هي تركت وأنا أيضا. وكل شيء قسمة ونصيب». ويستطرد ممازحاً: «في البداية، كنت حين أراها آتية أقول: وصلت البنت يلي بتمشّط حاجبيها». ينظر إليها طالباً منها السماح ليقول كل شيء ويتابع: «كانت تعجبني لكنني كنت أخاف أن ترفضني، فهي تبدو «كلاس» وأنا «عِكش». لم اكن مستعداً لأواجه «بخعة» منها.
وفي الآخر، قلت لها: «إنتِ بتعجبيني». أجابت: «إيه منيح» ولمعت عيناها. حدث ذلك ليلة الثالث من أيلول 2022. كنا في سهرة نار مع مجموعة من الإخوة. في تلك الليلة نام الجميع وبقينا نحن جنب النار نتحدث حتى الساعة السابعة صباحا. نهارا ذهب كل واحد منا الى منزله ومساءً تناولنا العشاء معاً. يومها أدركنا أن حبّنا سيكون قويا».
الرابع من آب؟
سمعنا ويليام، ماذا عن ماريا؟ متى لفتها ويليام؟ يبتسم لها قائلا: «خبرينا… خبرينا» مؤكداً أنها لم تقل له ذلك من قبل. تجيب «أعترف أنني لم أكن أنتبه في البداية الى التفاصيل. كان حزني يحجب عني كل المشاهد الأخرى. وتدريجياً أصبحت أراقبه اكثر و… وأعترف أنه يغار». يقاطعها: «لا، لا، هي التي تغار». تقاطعه بابتسامة وبتصحيح: «أنا أغار بعقلانية. أنا أسيطر على نفسي أكثر منه. أما هو فينفعل إذا غار». هو، لمن يهمه الأمر، من برج الجدي وهي من برج الحوت.
هما يفكران كثيراً بالبارحة، باليوم، وببكرا. هما قضيا أصعب ما قد يمرّ به إنسان. لكنهما، اليوم، بعدما وجدا بعضهما همسا لبعضهما: يحقّ لنا أن نفرح. يحقّ لنا أن نحبّ. ووجودنا الى جانب بعضنا البعض سيقوينا. وسنُخبر غداً أطفالنا عن عمو جو وتانت سحر. وسيعرفون أن الحبّ دائما أقوى من الموت.
الصيف الذي أدماهما سيعود ويجمعهما مع فارق ثلاث سنوات. في الصيف المقبل سيتزوجان. أين؟ هل فكرا في التاريخ؟ في الكنيسة؟ هل فكرا في الإرتباط الأبدي في الرابع من آب المقبل مثلاً؟ يصمتان قليلا ويعترفان لبعضهما أمامنا. تقول ماريا: «أعترف أنني فكرتُ بذلك. قلتُ لنفسي: هل يمكننا أن نغيّر بُعد الرابع من آب ونعيد إليه الحبّ؟ ليش منقلب التاريخ؟». ينظر إليها ويليام ويقول لها متفاجئاً: «يبدو أنكِ تفكرين مثل والدي. أعترف أنني تكلمتُ معه حول ذلك وهو قال لي: هل تريد ان تتزوج في 4 آب؟ قال لي وهو يبكي: سأذهب الى الإكليل لكنني لن أذهب الى سهرة العرس». ويستطرد ويليام قائلاً: «عرسنا، بعكس حبنا، لن يكون سهلا. سيكون هناك حزن في عيون أهلنا وفي قلب قلبينا. ما أتمناه أن نكون قد وصلنا في الرابع من آب الى حقيقة ما حدث. أتمنى ان تكون العدالة قد شقّت طريقها».
هما أكثر من يعرفان أنه ليس كل ما يتمنى المرء يدركه. ويوم الخميس، بينما يضعان المحبسيَن، سيكون قد مرّ عام كامل على منع القاضي طارق البيطار من متابعة تحقيقاته، فإلى أي مدى لديهما إيمان بأن الحقيقة ستظهر والعدالة ستأخذ مجراها؟ يجيب ويليام: «إقتنعتُ دائما أن لا وقت ميّت أمام الحقيقة حتى ولو مرّ عام كامل على «كربجة» القضاء. الأمل سيلازمنا ما حيينا وجهودنا لا ولن تتوقف في الكواليس وفي العلن». هو، ويليام، وهي، ماريا- كما الكثيرين من أهالي ضحايا تفجير المرفأ – يثقون بقاضي التحقيق طارق البيطار. يقول ويليام: «هو قاض مؤمن ومثابر. تعرّض لكثير من الضغوطات، التي لا يتحملها إلا الإنسان المؤمن، ولم ينحن. لو كان أيّ قاض غيره لكان رضخ وهرب. جرأتهُ تمنحنا سلاماً وطمأنينة وقدرة على الصمود والإنتظار. ولدينا شعور بأنه لو لم يكن يملك أدلة لما هبّوا جميعا لمهاجمته» ويستطرد بالقول «القاضي فادي صوان هو نظيف أيضاً لكننا شعرنا أن وظيفة sales تناسبه أيضا. فهو كان قادراً على إقناعنا أن التحقيق على قدم وساق بينما هو « يفوت بالحيط». وكنتُ كلما قلتُ له إن الوضع ليس بخير يجيبني بلى. وفي النهاية قام بهفوة، أعتقد أنه فعلها عن قصد، ليترك. لم يكن القاضي صوان «قدها»، في حين أن القاضي البيطار يكرر أمامنا: أحمل أمانة 230 ضحيّة وسأتابع الى الآخر».
يتكلم ويليام فتُنصت ماريا. هي لم تكن في السابق تهتم لا بالقضاء ولا بالسياسة ولا «بعجن وخفق» السياسيين. وتقول: «لم أكن حتى أعرف أسماء السياسيين». يسألها ويليام: «هل تعرفين من هو سعد الحريري؟». تضحك. هي تخاف عليه كثيراً وهو الذي سبق وتعرّض الى أكثر من تهديد. وعن ذلك يقول «لا أبالي عادة بمن يقول لي: سأقطع لك لسانك، بل هناك كلام لطيف، لكن مبطن، وقعه يكون أقوى». وهنا يتذكر يوم تكلم مع وفيق صفا، من خلال سيدة أعمال دعته الى لقاء واتصلت بصفا الذي تكلم معه وحدد معه موعد لقاء. وفي صبيحة ذاك اليوم قصد الكنيسة وصلى وبينما كان يهم بالخروج أتاه إتصال يلغي الموعد. وحين تكلم عن ذلك في الإعلام، أتاه اتصال يخبره أن صفا منزعج منه. يبتسم ويليام وتعبس ماريا.
نعود الى لغة الحبّ. اللبنانيون، أحبوا ويليام أم لا، لفتهم إرتباطه. والسياسيون، كثير من السياسيين، هنأوه. أول رسالة تهنئة وصلته من يمنى بشير الجميل. القوات هنأوه. صولانج الجميل ارسلت له رسالة ملؤها الحبّ واتصلت بوالدته أيضاً. وميّ شدياق، الفراشة، إتصلت به على الرغم من كل الألم الذي تشعر به ويقول: بحبها كتير لميّ. نحن أصبحنا أصدقاء. قالت لي: وجعي كبير لكني فرحتُ كثيراً لارتباطك. قلتُ لها: غداً، حين تستعيدين عافيتك سنذهب معا أنتِ وماريا وأنا الى عنايا. بكت».
يتمنى ويليام لو يتزوج في كنيسة القديس شربل في عنايا لكن لا مناسبات أعراس في الكنيسة. وخياراته البديلة: كفيفان أو بكركي أو كنيسة ضيعته مشمش. هو يعشق ضيعته.
وماذا بعد؟ اللقاءات كثيرة. الايام المقبلة مليئة بالمواعيد في اجندتهما. القاضي سهيل عبود سيستقبلهما مع وفد من أهالي الضحايا. وليلة الخميس ستكون خطبتهما رسمياً. تسطع عيون ويليام وماريا. أصاب من قال أن للعيون لغة تفشي كل الأسرار. وللحبِّ العميق أسرار عصيّة على أي كلام.