في حين كان المطران الياس عودة يعبّر عن مخاوف لبنانيين كثر، ونحن منهم، من أن تضيع كل التضحيات سدى في ظل انسداد الآفاق في المؤسسات الدستورية مع تعطل البلاد ودخولها ليس فقط مرحلة الشغور الرئاسي، بل أيضاً تعثّر كل المؤسسات، ما عدا الأمنية لحسن الحظ، كان الرئيس سعد الحريري الذي يحشره حلفاؤه قبل خصومه هذه الأيام، يغرّد في ذكرى جبران تويني قائلاً: “في الذكرى العاشرة نفتقد الجرأة في القول والكلمة القاطعة بحد الصدق لأنك تشبه “النهار”، فإن ذكراك لن تغيب وقسمُك سيبقى مدوياً في ضمير لبنان. أنت وكل الشهداء قضيتكم أمانة بحجم وطن، تضيع اذا ضاع لبنان”.
وقد استوقفتني العبارة الأخيرة التي تؤكّد أن شهادة من استشهد، ومنهم والده الرئيس رفيق الحريري، أمانة لن تضيع إلا إذا ضاع الوطن كله. لكن لبنان لن يضيع، وهذا إيماننا الذي حملناه أباً عن جد، وهذه الأمانة ننقلها إلى الأجيال الطالعة. صحيح أن كثيرين سقطوا، وآخرين هزموا، وغيرهم هاجروا، لكن لبنان باق. باق على رغم كل الاحتلالات التي تعاقبت عليه، وعلى رغم كل المؤامرات التي حيكت ضده، لأن فيه مؤمنين ومقاومين دافعوا عنه بكل ما أوتوا من قوة. لأن فيه سياسيين شرفاء، وليس صحيحاً ما يطلق تعميماً وما يوجه من اتهامات إلى كل السياسيين، ولأن فيه موظفين أكفياء يقومون بواجباتهم على رغم كل الضغوط والاغراءات التي تواجههم. ولأن فيه قديسين يلتزمون صومعتهم ويصلون من أجله، وفيه عائلات ملتزمة حب الوطن، وفيه صحافة حرة، وفيه الكثير من الأوكسيجين الذي يمده بالروح، وإن ابتلي بالأمراض الخبيثة على الدوام.
سأل المطران عودة: “هل يستحق هذا البلد شهداءه؟ وهل اغتيل جبران ورفاقه لتذهب دماؤهم هدراً؟ هل مات جبران تويني وسمير قصير وجورج حاوي وبيار الجميل ووليد عيدو وأنطوان غانم وفرنسوا الحاج ووسام عيد ووسام الحسن وغيرهم، من أجل أن يضمحل الوطن وتنسل روحه شيئاً فشيئاً، فلا يبقى فيه رئيس يمثله ويكون رمز وحدته ويحافظ على استقلاله وسلامة أراضيه؟”. أسئلة مشروعة يطرحها كل منا، سواء أكان في موقع المسؤولية أم مواطناً لا يتعاطى الشأن العام. أسئلة يطرحها الوالد والوالدة القلقان على مستقبل أبنائهما في بلد الحروب المتتالية والنزاعات الدائمة. أسئلة لا تجد جوابا حتى لدى المسؤول، لأن البلد يحكمه عدد محدود من الزعماء لا يقيمون للآخرين اعتباراً.
لذا كانت ثورة جبران تويني دائمة، ليس في مواجهة العائلات السياسية، وليس ضد الوراثة، وقد تكون في هذه وتلك إيجابيات، لكنها ثورة ضد الفساد والإفساد والمذهبية والظلم التي تسود نتيجة رضوخ اللبنانيين لها، وعدم رفضهم إياها ورموزها، من إقطاع أو عائلات أو حديثي الثراء والسلطة، وهؤلاء اسوأ بكثير، وقد برهنت الايام ذلك. وثورة جبران لم تكن فقط في الشارع، بل هي تنطلق من النفوس الى المؤسسات، لتغييرها من الداخل، وفرض دولة القانون والمؤسسات. والفرصة لا تزال متاحة للانقلاب على الواقع المدمر للبشر والحجر. المهم ألا يضيع لبنان ونتحمل إثم الخطيئة التاريخية لأننا انكفأنا عن القيام بدورنا.