رئيس جمعية الصحافة (= نقابة الصحافة) في البحرين الصديق الزميل الأخ مؤنس المردي، نجل مؤسس الصحافة البحرينية في نهضتها الحديثة المرحوم محمود المردي، قال لي ذات يوم، والمزاح ظاهر في كلامه: أريد أن أتأكد سلفاً من عدم وجود لبناني على لائحة الركاب قبل أن أوافق على أن أستقل الطائرة في أي رحلة أقوم بها… وما أكثر تنقلاته.
جاء هذا الكلام عندما كنّا نتسقط، في المنامة، أخبار كارثة جوية تبيّن أن لبنانيين بين الضحايا، وكانت بضع كوارث جوية قد سُجلت في تلك المرحلة وما قبلها، وكان غير لبناني بين الضحايا.
وسألت مؤنس: ولماذا؟ فأجابني: تداركاً للأسوأ. ولم يشأ، بتهذيبه الجم أن يقول إن وجود لبنانيين على أي طائرة فأل شؤم.
وقلت: فإذاً، يا عزيزي، لن تستقل طائرة في حياتك، لأنك قد لا تجد «مانِفستو» واحداً خلواً من إسم لبناني أو مجموعة لبنانيين.
فقال: طبعاً… أنا أمازحك.
حضر هذا الحوار في الذاكرة وأنا أتابع، بأسف وأسى، تفاصيل الإعتداء الإرهابي في بوركينا فاسو الذي أسقط مجموعة من القتلى بينهم ثلاثة شهداء لبنانيين.
أنا أسميهم شهداء عن سابق تصور وتصميم. هم، والذين سبقوهم، شهداء. سواء أسقطوا جراء الإعتداءات الإرهابية على مطعم او منتجع أم جراء القضاء والقدر في طائرة أو باخرة… (وهلا تذكرنا التيتانيك ومجموعة اللبنانيين الذين قضوا في كارثة غرقها؟).
إنهم شهداء لأنهم روّاد آفاق… لأنهم على حد قول شاعرنا الأكبر سعيد عقل، يذرون في كل شط قرى لبنانية ويبنون لبنانات عديدة، يقولها بأسلوبه المحبّب مع بعض المبالغة الظريفة:
«… ومن الموطن الصغير نرودُ الأرضَ
نُذري، في كلِّ شطٍ، قرانا
نتحدى الدنيا شعوباً وأمصاراً
ونبني – أنّى نشأ – لبنانا».
إنهم شهداء الوطنية. وهم شهداء الحرية. وهم شهداء الكرامة. وهم شهداء اللقمة الشريفة المغمسة بالدم.
إنهم شهداء العمل الدؤوب، والتنكب عن البلادة والتنبلة، وبالتالي هم شهداء البداهة، والمبادرة، والشجاعة، والمروءة، وسحب اللقمة من فم الأسد. وشهداء الإقبال على الحياة وارتشاف كأسها حتى الثمالة.
ولأنهم كذلك فهم على موعد مع القضاء والقدر. وعلى موعد مع الأخطار كبيرها ومتوسطها والصغير. ولا نخاف أن نقولها (وإن كنّا نأسف ونحزن) على موعد مع الموت.
هؤلاء الشهداء يقضون في حوادث الطائرات لأنهم على حراك دائم. ويقضون في المطاعم والمناسبات العالمية لأنهم على شغف بالحياة وعلى حق في التمتع بمباهج هذه الدنيا، وقد استحقوا مباهجها التي انتزعوها بالجهد والبذل والسهر والعلم والإحتراف والثقافة والعطاء.
إنهم خيرة أهل الدنيا، ولا مبالغة. إنهم يستحقون الحياة ولو قضوا شهداء في سبيلها. ولو كان لبنان ليتكلم لكرر قول الشاعر الاموي: هؤلاء أبنائي… فجئني بمثلهم.
ورحم اللّه شهداء هذه الملحمة اللبنانية العظيمة.