من شبه المؤكد ان “وجع الضمير” الذي ألمّ بالقاضي مروان عبود لم يشعر به أو يسمع عنه الكثير من الوزراء والنواب. عيّن رئيساً للهيئة العليا للتأديب على “أساس مكافحة الفساد”، لكن وعلى امتداد عامين من ولايته يقول: “لم ألمس تحسناً ولم يُحَل إليّ أي ملف من التفتيش المركزي من ملفات الفساد الكبيرة”. تعب القاضي عبود وملّ عملاً صار مخصصاً “لمحاسبة الحجاب ونواطير البلديات وموظفي الدرجة الرابعة”. هذا تقاضى رشوة بمئة ألف وذاك بخمسين ألفاً “مصيبة إذا حاكمتهم ومصيبة أكبر إذا لم أحاكمهم”… واقع “وجّعلي قلبي وفي الوقت نفسه يتوجب عليّ تطبيق القانون”.
بحكم الأمر الواقع والمحسوبيات السياسية وفي عهد السمسرات والصفقات الكبرى وملفات الفساد التي لم يعلن عن مرتكبيها بعد، تحوّل القاضي مروان عبود من رئيس لهيئة تأديب عليا إلى قاضٍ تقتصر أحكامه على الضعفاء، فتولّى الحكم على نفسه: “لم يطاوعني ضميري فارتحت”.
مراراً وتكراراً عبّر عن استيائه، وفي كل مرة كان يرفع صوته “آملا في تحريك المياه الراكدة”، يحل موعده مع العبث “يرجع الوضع إلى الخلف ولم يبالِ أي طرف أو جهة سياسية بما قلت”.
تحوّل عبود من موظف “صف أول يسخّر ضميره” إلى “موظف صف ثانٍ مرتاح الضمير”، متأملاً مفهوم الإصلاح في هذا البلد. الضريبة مكلفة ستدفعها عائلته نتيجة تدني راتبه 3 ملايين ليرة، وتراجع مستواه المعيشي لكن “فضلت ظلم عائلتي على أن أحمّل ضميري”.
في كل مرة كان يشتكي إلى المعنيين كان جوابهم “طوّل بالك والأوضاع لا بد ستتحسن”. كفر بالوعود كما كفّروه بأمل الإصلاح حتى ارتأى أن ينسحب وأبلغ قراره إلى المعنيين قبل أسبوع من قرار الحكومة نقله إلى ديوان المحاسبة.
اصطدام بجدار التعليل
لعله من القضاة النادرين ممن كان يرفع الصوت مطالباً بممارسة عمله ضمن صلاحياته المنصوص عنها في القانون لكنه كان يصطدم بجدار التعليل والتبرير غير المقنع. وكيف يقنع قاض تم تعيينه للمحاسبة على الفساد أنّ “أي ملف عن الفساد لم يحوّل إليه أبداً، في حين يقول التفتيش المركزي أن لا شيء لديه يتحرك على أساسه بعد”، علماً أنّ القانون يمنحه صلاحية “الإثارة العفوية” التي تخوله التفتيش عن مكامن الفساد والأدلة عليها لا الاكتفاء بالوارد اليه.هو أدرك أنّ “كل ملفات الفساد في لبنان تحميها التوازنات الدقيقة بين الأجهزة الأمنية والقضائية والفضاء الطائفي للمرتكبين” ومن واقع تجربته يمكن أن يستخلص أنّ “مكافحة الفساد في لبنان ليست مسألة قضائية أو قانونية أو تقنية بل هي مسألة سياسية طائفية زبائنية محكومة بتوازنات السلطة الحاكمة التي أوصلت لبنان إلى الإفلاس منذ العام 1993” .
إذ كيف يحارب الفساد بلد “لكل طبقة سياسية فيه طائفتها التي تحتمي بها ولها جهازها الأمني وجهازها القضائي. فالقضاء في لبنان مجتزأ ومستضعف، وتابع للمنظومة السياسية والأمنية، والملف القضائي الذي يمكن فتحه من قبل هذا الجهاز أو هذه الجهة القضائية لا يمكن فتحه عن طريق جهاز أو منظومة قضائية أخرى، ولذلك نجد للنيابة العامة المالية اختصاصاً واقعياً يختلف عن الاختصاص الواقعي المعطى للنيابات العامة الاستئنافية، وهذا ما يفسر قيام المخبرين أو أصحاب الشكاوى بتقديم شكواهم لدى هذا المرجع القضائي أو ذاك”، وخير دليل على ما تقدم تلك الشكاوى التي صارت منسية وكان موضوعها ملفات الجمارك (ملف غراسيا القزي)، فـ”التيار الوطني الحر” إدعى لدى النيابة العامة الاستئنافية في جبل لبنان، فيما التيار السياسي المنافس (القوات اللبنانية) ادعى لدى النيابة العامة التمييزية، في حين تعتبر النيابة العامة المالية موئل النفوذ العائد لجهة سياسية معينة فلا تمر الدعاوى فيها إلا عبر ورقة تسهيل مرور من قبل هذه الجهة.
أجهزة الرقابة مشلولةيحصل هذا كله فيما «أجهزة الرقابة مشلولة تتفرج على ما يحصل في القضاء في مواضيع مكافحة الفساد، وهي المفترض أن تكون اللاعب الأساسي في هذا الموضوع، ولكن المفارقة أن لا التفتيش المركزي قام بالادعاء بأي ملف فساد ولا ديوان المحاسبة ولا النيابة العامة لديه، كما أنّ القضاء الجزائي لم يتمكن لغاية تاريخه من إنهاء أي ملف فساد تم الادعاء به أمامه. فلا ملف تعاونية موظفي الدولة وصل إلى نتيجة ولا ملف الإخبارات المتبادلة في الجمارك ولا ملف الفساد في مصلحة تسجيل السيارات والآليات ولا مسائل الهدر في مرفأ بيروت، أما ملف الفساد القضائي فلا يزال أيضاً عالقاً من دون أن يعرف مصير أي واحد من هذه الملفات. فالسماسرة في السجن والقضاة الموشى بهم لا يزالون على أقواس المحاكم والرأي العام لا يزال في ضياعه، في ظل مجلس وزراء محاصصة ومجلس نواب غائب عن المساءلة وقد تخلى عن دوره الرقابي على ما يبدو». هذا هو واقع الفساد في لبنان حتى تاريخه وبتأكيد عبود وغيره من المراجع القضائية فإنّ «كل ما يحصل كلام بكلام ولعبة طاولة بين أقطاب سياسيين لهم توابعهم الأمنيون والقضائيون ورؤساء طوائف يمدونهم بالغطاء ولا شخص خلف القضبان حتى تاريخه». هي إذاً اشكالية مؤجلة العلاج، فإلى متى يبقى هذا الواقع؟
في تقريره السنوي كان يسأل رئيس الهيئة العليا للتأديب السابق القاضي مروان عبود: هل إبقاء الوضع الراهن يخدم المصلحة العامة ويحد من الفساد؟
تساؤل لم يسلك طريقه إلى أذهان المسؤولين للإجابة عليه في حين يشكّل الفساد والطائفية، إلى جانب التدخل السياسي، عناصر إفشال الإدارة اللبنانية في تحقيق أهدافها، ناهيك عن عدم تطبيق الأنظمة والقوانين التي يعتريها الضعف، وتهميش دور هيئات الرقابة ولامبالاة السلطة السياسية في معالجة نقاط الضعف لدى هذه الهيئات، والتي تبدأ أساساً من خلال طريقة التعيينات وآليتها، حيث لكل طائفة حصتها يفرضها أولياء الأمر فيها… والأدلة هنا لا تُعد ولا تُحصى.