IMLebanon

المشنوق اكد ان جعجع لم يكن يوماً مرشح المستقبل و14 اذار

ليس السؤال محصورا بتوقيت كلام وزير الداخلية نهاد المشنوق إلى الزميل مارسيل غانم في برنامج «كلام الناس»، بل هو مطلّ نحو آفاق جديدة انبعثت من جوف كلامه لتحدث تغييرا جذريّا ورؤيويا في مسرى الواقع السياسيّ. فالمناخ القائم قبل كلام المشنوق زلزاليّ بطبيعته بفعل الانتصار المدوّي الذي أحدثه انتصار الوزير المستقيل أشرف ريفي في الانتخابات البلديّة تحت مظلّة سعوديّة شديدة الوضوح، وأوحى المشهد العاصف المتصاعد من طرابلس الفيحاء بضمور حالة بادت وفنيت بحدود واسعة، وسطوع حالة جديدة تحاول تكريس نفسها بكلّ أوعيتها وشرايينها، وفرض زعامة جديدة أنتجها زمن معطوب ووضع مثقوب في بلد مشرّع وجوده ومشلّع حضوره في مهبّ رياح عاتية.

لم يدم طغيان المشهد الطرابلسيّ على الساحة اللبنانيّة بحجمه ومداده طويلاً، ليمتّصه بواقعيّة أيقظت الوقائع الصانعة للأحداث من سباتها، ووضعت النقاط على الحروف بغير خجل ولا وجل، فنهاد المشنوق تكلّم، قال ما قاله، وهو العالم من موقعه كوزير الداخليّة، ومن موقعه حافظاً لإرث الرئيس الشهيد رفيق الحريري، أنّ السياسة السعوديّة السابقة بحسب تعبيره أرغمت الرئيس السابق للحكومة سعد الحريري على الذهاب إلى دمشق، وحبر حديثه إلى صحيفة الشرق الأوسط كمقدّمة للرحلة لم يعد سائلاً فحسب وقد سيّله التوافق السوريّ – السعوديّ على لسانه بل هو دامغ، والجزء اليسير منه قام على تبرئة الرئيس السوريّ بشّار الأسد من اغتيال الرفيق.

من شان هذا الكلام أن يوحي بأمرين:

1- الأمر الأوّل بأنّ سعد الحريري لم يكن بصانع القرار كأبيه، فبين الأب والابن بون شاسع في التفكير والقراءة والتعاطي، فالأب حافظ على توازنه بسلوكيات سياديّة ولو بالحدّ الأدنى، في حين أنّ الابن أخلى ذاته منها ليندرج في خطّ لم يحفظ فيه نفسه في عمق صداقة موروثة ممزوجة بعقل منتج وقارئ، فجاء الاندراج على شيء كبير من التبعية المبتلعة للذات. وأمام ذلك، ما كان على سعد سوى الطاعة بلا اعتراض أو تمييز، فما يقال له واجب التنفيذ ولو على حساب لبنان وهو فيه رئيس حكومة، ولو على حساب حقيقة رآها السعوديون في تلك المرحلة ليؤسّسوا التوازن السياسيّ المستكمل لاتفاق الطائف زائد اتفاق الدوحة، كي لا تنفجر المنطقة بلبنان. رأى السعوديون كلّ شيء وسعد الحريري لم يرَ شيئًا على الإطلاق بهذا الخصوص.

2-الأمر الثاني بأنّ جناحاً سعوديّاً محصوراً بالملك الراحل عبدالله بن عبد العزيز آل سعود، وهذا في مرحلة ما قبل سنة 2011 أي تاريخ انفجار سوريا بالحرب فيها وعليها، اكتشف بالتحليل المسهب بأنّ اتهام سوريا جاء زورًا وبهتانًا بمسألة قتل رفيق الحريري. لماذا كان الإصرار من هذا الجناح شديداً بتبرئة بشار الأسد وإرغام سعد الحريري على لفظها بالقول عبر صحيفة الشرق الأوسط وبالفعل بالاتجاه إلى قصر المهاجرين، والمكوث ليومين بضيافة الرئيس الأسد؟ لنتكشّف وفي مرحلة ما بعد 2011 وخلال مرض الملك الراحل غلبة فريق أو جناح آخر متشدّد بعدائيّته لسوريا وللنظام تحديداً، عماده في تلك اللحظة بندر بن سلطان ووزير الخارجية الراحل آنذاك سعود الفيصل، فتتورّط السعودية في حرب شرسة في الداخل السوريّ مع الإيرانيين بفعل استهلاكها لمعارضة مريضة وقوى تكفيريّة حيّة على الأرض. ليظهر سعد الحريري متناقضاً مع نفسه ومع قوله، فيعتلي المنابر في وجه سوريا ورئيسها بعدائيّة سافرة ومتهما إياه بالإجرام.

ويتوغّل معاليه بالاستناد إلى الوقائع للبعث برسائله باتجاهات عديدة وبصورة واسعة. الشيء الأساسيّ وبدا أنّه معطى في حقيقته بأنّ وزير الداخلية كشف بأنّنا لسنا أمام لوحة سعوديّة متماسكة بالعمق والجوهر، بإشارته الواضحة إلى السياسة السعوديّة السابقة، لمَ أشار الى صفة السابقة؟ هل ليوحيّ بأنّ الجديد مختلف عن نهج تبدّل تبديلاً في لحظة حكم الملك عبد الله غير مرّة، أو ليوحي بأنّ السياسة الحالية قد لا تختلف بالرؤى تجاه لبنان عما سلف بتعدديتها المتناقضة بنيويًّا، فحاول القول إنّ التناقض البنيويّ أوصل اشرف ريفي إلى زعامة ناطقة على حساب تيار سار تفرّعت منه أجنحة، ولم يستطع زعيمه توحيد المتفرقات إلى حال واحد. الطامة أن السعوديّة تفرّعت إلى «سعوديّات» بدءاً من صراع جناحين على الأقل جناح وليّ العهد محمّد بن نايف ووليّ وليّ العهد محمد بن سلمان، فانساب التفريع عينه إلى تيار المستقبل مستنداً بدوره الى واقع ماليّ مزر ينوء تحته زعيمه.

من الرسائل التي ظهرت في متن كلام المشنوق وبلا تأويل أيضًا، أنّ سعد الحريري رشّح العماد ميشال عون إلى رئاسة الجمهوريّة والسعوديون وضعوا «فيتو» على ذلك. أثبت المشنوق في هذا القول صحّة ما زعمه العماد عون وزعمه كثيرون ممن رافقوا تلك المرحلة، واستناداً الى حدث اللقاء في بيت الوسط في 4 شباط 2015 بين العماد عون والرئيس الحريري، وفيه تمّ إرساء تسويتين واحدة اختصت بصفقة ما بين قيادة الجيش بترشيح العميد شامل روكز لهذه القيادة وتعيين العميد عماد عثمان رئيسًا لقوى الأمن الداخليّ، والأخرى استكملت مشروع ترشيح العماد ميشال عون لرئاسة الجمهوريّة مقابل أن يعيّن سعد الحريري رئيسًا للحكومة وجاء الكلام عن تلاقي الوجدانات الطائفيّة بمن يمثّل الأكثرية فيها صافيًا وتبياناً لتلك الروحيّة التي نضحت بإيجابية مطلقة قابلها تشدّد سعوديّ تحت ستار الحفاظ على الطائف، وبالمفهوم السعوديّ الحفاظ عليه كحالة معزّز لمفهوم الطائفة القائدة في حمأة الصراع ضمن الدائرة السورية ومنها إلى لبنان. وبكلام فجّ وصريح واضح ومهما حاول سفير المملكة العربيّة السعوديّة علي عواض العسيري إنكاره أو إخضاعه لعمليّة تجميّلية تحفظ ماء وجه المملكة إلاّ انّه يبقى ثابتاً في السياق التاريخيّ. تلك الرسالة من شأنها أن تثبت صحة كلام عون بدقّة لا متناهية، فتظهر تالياً بأنّ المملكة حاربت إرادة أكثرية مسيحية طالبت بالعماد عون رئيسًا للجمهوريّة.

ومن الرسائل الهامة المنكشفة في مضمون كلامه، إشارته الى أن البريطانيين هم من رشحوا سليمان فرنجيّة. والأميركيون والسعوديون تبنوا الترشيح، بمعنى أنّ من سمّاهم كان همّهم بالدرجة الأولى ضرب الحضور المسيحيّ بمسوّغاته في فريق الثامن من آذار بخلق مناخ صدام وتوتّر ما بين ظهيري المقاومة المسيحيين العماد ميشال عون والوزير السابق سليمان فرنجيّة فيحرج التوتّر موقع حزب الله في سوريا ويربكه في المعركة التي يخوضها في الداخل السوريّ، ويصبح بين خيارات غير حميدة. لكنّ ذلك انعكس على فريق الرابع عشر من آذار بواقعه البنيويّ أيضاً، ليظهر الانقسام الجذريّ واضحاً وفاضحاً بين سعد الحريري وسمير جعجع ومن ثمار هذا الخلاف ورقة النيات بين القوات والتيار ليقوم جعجع بترشيح العماد ميشال عون لرئاسة الجمهوريّة. وأمين عام حزب الله السيد حسن نصرالله حين تبنّى ترشيح العماد عون بصورة قطعيّة لا جدال حولها فلأنّه اكتشف أنّ ترشيح فرنجيّة جاء في سياق شاء أربابه وضع الحزب في مكان غير مكانه سواءً في سوريا او في لبنان. بمعنى أنّ المعطى السياسيّ في كشف نهاد المشنوق بهذه الحقيقة وعلى مسؤوليته تعرية كاملة لدور سليمان فرنجيّة وتثبيت حقيقيّ لخطّ العماد عون وكشف واضح للدكتور سمير جعجع بأنّه على الإطلاق لم يكن يومًا من الأيّام مرشّح الرابع عشر من آذار ولا مرشّح تيار المستقبل في ظلّ الارتجاج البنيويّ الحالّ فيه والمصاب به ولا مرشّح المملكة العربيّة السعوديّة، وهنا بيت القصيد (فلماذا لا يزال يدافع عن توجهاتها في الصراع السوريّ، وفي المعطى السياسيّ اللبنانيّ بوجه حزب الله)، بل جاء الترشيح من باب المناورة وتعطيل الانتخابات الرئاسيّة بربطها في مهبّ الصراع السوريّ، وأثبت صدق السيد حسن نصرالله بدعوته المتكررة بالنزول إلى المجلس النيابيّ وانتخاب رئيس للجمورية اللبنانيّة بلا شروط أو قيود.

حديث نهاد المشنوق الأخير ما كان مجرّد رسالة أو مجموعة رسائل تمّ توجيهها بفضح مكنوناتها بل هو زلزال سياسيّ كبير بحجمه صاخب بتطلعاته وقادر على خلط الأوراق في اللحظات التكوينية الجديدة للبنان. السؤال المطروح هل كلام المشنوق عملية إنقاذية لسعد الحريري مما هو فيه؟ لا شكّ أن نية الرجل طيبة تجاه إرث الرفيق، وهو بكلامه نفض الغبار وبعد انتخابات طرابلس عن حقائق ساهمت بدورها في فوز أشرف ريفي بالمضمون المتطرّف القائم فيه، لكنّه أظهر بدوره ان سعد الحريري ما كان ولا مرّة واحدة فاعلاً ومقرّراً في الحياة السياسيّة اللبنانيّة، وعلى الرغم من ذلك وبصورة غير مباشرة أظهر مخرجاً واضحاً بصورة غير مباشرة قام على أن ميشال عون لا يزال ثابتاً، وإذا شاء الحريري الانتعاش السياسيّ بتمثيل واضح للخطّ السنيّ الوسطيّ والمعتدل فما عليه سوى الذهاب إلى ميشال عون والاتفاق معه. وإذا لم يكن بمقدوره ذلك فنهاد المشنوق وبعد هذا الحديث هو المؤهّل لتمثيل خط الاعتدال في وجه الخطاب المتطرّف والذهاب إلى ابعد الحدود في تسهيل الأمور وتسييل الجمود وفتح كوة واسعة في الجدار السياسيّ السميك تعيد الاعتبار إلى الميثاق الوطنيّ المكوّن للبنان بقانون انتخابات عادل وانتخاب رئيس للجمهوريّة قويّ وقادر على حكم لبنان مع رئيس حكومة يمثل الاتجاه نفسه، ونهاد المشنوق أحد كبار المرشحين لتحقيق هذا الهدف الوجوديّ والسّامي.