أكثر من 96 في المئة من سكان بيروت معرّضون لتنشق أكثر من 40 ميكروغراماً في المتر المكعب الواحد من الغازات الملوثة على مدار السنة. من هذه الغازات التي يبدو أن على اللبنانيين الاعتياد على حفظها: ثاني أوكسيد النيتروجين NO2 وثاني أوكسيد الكبريت SO2 وغاز الأوزون، وأخطرها جزيئيات الغبار PM (جزيئيات دقيقة تنجم عن الغبار المتطاير ويقل قطرها عن 10 ميكرومتر) التي لا تفلترها شعيرات الأنف، وتستقر في الحويصلات الهوائية، وتسبّب أمراضاً مميتة لجميع الشرائح العمرية، كالسكتات الدماغية والصدرية وسرطان الرئة والربو.
هذه الغازات تغطي اليوم نحو 76 في المئة من مساحة بيروت، بحسب مدير وحدة أبحاث البيئة والجينوم في جامعة القديس يوسف ماهر عبود. وتتخطى نسبتها في العاصمة النسب القصوى المسموح بها بحسب معايير منظمة الصحة العالمية. وهي تظهر للعيان على شكل غيمة سوداء (smog) تظللّ بيروت وتهدّد سكانها والمناطق المجاورة حتى ضبية شمالاً وصيدا جنوباً، ولم يعد بالامكان رؤيتها من الجبال القريبة وحسب، وإنما تنشق رائحتها أيضاً.
في ندوة عقدها «المنتدى العاملي الوطني» حول «تلوث الهواء في بيروت»، أوضح عبود أن دراسات «تلوث الهواء العمقي» (بعيداً عن اكتظاظ السيارات لمعرفة ما يتنفسه البيروتي في منزله) التي بدأتها الجامعة اليسوعية عام 2006 أظهرت أن ثاني أوكسيد النيتروجين يتخطى بنسب تراوح بين 35 و45 في تلك التي تسمح بها منظمة الصحة العالمية. «وفي بعض أوقات السنة، وتحديداً في الخريف، تتخطاها بنسبة 100 في المئة»! وبيّنت الدراسات التي ركزت على بيروت الإدارية (بين هضبتي تلة الخياط والأشرفية) أنها المنطقة الأكثر عرضة للتلوث. إذ أن طرقاتها ضيقة وتحدها المباني العالية ما يخزّن الهواء الملوث فيها ويحول دون تبعثره، ناهيك عن «التأثير الخطير» للأبراج التي تزرع مقابل الواجهة البحرية ما يمنع، بالتالي، تبعثر الهواء وتجدده.
تلوث الهواء هو «التبغ الجديد» بحسب منظمة الصحة العالمية، إذ يبلغ عدد ضحاياه ضعفي ضحايا التدخين. بحسب المنظمة، فإن تلوث الهواء والتدخين هما السببان الرئيسيان للأمراض غير المعدية في لبنان. وبحسب اختصاصية نوعية الهواء في وزارة البيئة ثروت مقلد، فقد باتت نسبة مرضى الربو في لبنان أعلى بنحو 50 في المئة مما هي عليه في أميركا وأوروبا. فيما تتخطى الفاتورة الصحية للأمراض الناجمة عن تلوث الهواء 151 مليون دولار بحسب دراسة للبنك الدولي. للتوضيح أكثر، أشارت مقلد إلى أن «الإنسان يأكل ما معدله 1,5 كيلوغرام من الطعام ويشرب حوالي كيلوغرامين من الماء، فيما يتنفس ما يعادل 14 كيلوغراماً من الهواء. وإذا كان بإمكانه أن يختار ما يأكله ويشربه، إلا أنه غير قادر على انتقاء الهواء الذي يتنشّقه».
بيروت الإدارية بين تلة الخياط والأشرفية الأكثر عرضة للتلوث
رغم هذه المعطيات الخطيرة، بدت التوصيات التي أعطتها مقلد، باسم وزارة البيئة، أشبه ما يكون بإعطاء حبة بنادول لمريض بالسرطان، كالتخفيف من استخدام السيارات، واقتناء نباتات لتنقية التلوث المنزلي… فيما لم تضع الوزارة، لا حالياً ولا سابقاً، خطة جدية لمواجهة هذه الكارثة. اللهم الا زرع محطات لقياس نوعية الهواء في بعض المناطق لتحديد خارطة نوعية الهواء، تعرض نتائجها عبر تطبيق متوفر على الهاتف. هكذا، وكفى الله المؤمنين شر القتال! الزميل حبيب معلوف، في كلمته، لفت الى أن الوزارة أجرت عام 1993 دراسة مقارنة بيّنت مستويات خطيرة من تلوث هواء في بيروت والمدن الساحلية، «ما يعني أن الأمر ليس بجديد». لكنها، رغم ذلك، لم تقم بأي محاولة للمعالجة: «فقط وضعت قانوناً بدل وضع استراتيجية لمعالجة تلوث الهواء، علماً ان التجربة أثبتت أن القوانين تسنّ بناء على طلب المستثمرين ولحمايتهم». معلوف اشار أيضاً إلى أن الوزارة أعدت عام 2005 استراتيجية لمكافحة تلوث الهواء لم يتم تبنيها ولا أخذت الإطار القانوني للتنفيذ، ولا اعتمدت أي خطة طوارئ من أي نوع.
وفق معلوف، خطورة الأمر تصل الى حدّ «ضرورة فرض حظر تجول لنحو 60 يوماً في السنة على الأقل في بعض الأماكن في العاصمة». وعزا السبب الأول لتلوث الهواء الى قطاع النقل «الذي ما فتئ يتضخم منذ نهاية الحرب الأهلية مع سياسة الدولة بتشجيع استخدام النقل الخاص والقضاء على النقل العام، عبر صرف أموال طائلة لتطوير البنى التحتية والطرقات لاستيعاب الكم الهائل سنوياً من السيارات، على حساب ما تبقى من مساحات خضراء وعلى حساب رئة المواطن». وانتقد معلوف «بدعة» وزارة البيئة التي دعت إلى التخلص من السيارات القديمة واستبدالها بجديدة بحجة أن انبعاثات محركاتها أقل تلويثاً، «فكانت النتيجة غرق الطرقات بالسيارات الكورية الصغيرة الأرخص ثمناً وتضاعف أعداد السيارات». الأمر نفسه ينطبق على قطاع انتاج الطاقة (المولدات) «السبب الثاني لتلويث الهواء والذي يغرق أحياء بحالها بالغازات المنبعثة من المولدات. ولم يكن ينقصنا بعد المطامر التي زرعت في المدينة إلا المحارق المزمع اعتمادها، ما يثبت أن المشاكل المميتة في بلادنا يتم التعامل معها دائماً بمنطق الصفقات والاستثمار في الكارثة»!