هي القاع التي كانت تستعدّ اليوم للاحتفال بذكرى المجزرة التي وقعَت في 28 حزيران 1978، ففاجأتها مجزرةٌ جديدة بالطريقة الوحشية نفسِها وإنْ كان المرتكِب والمجرم جسماً آخر، أراد تحويلَ بزوغ فجر الإثنين إلى دمٍ وخراب ودمار، فخطفَ 5 شهداء و15 جريجاً، ليكمل فعلته ليلاً موقعاً مزيداً من الضحايا.
بعد 38 عاماً على ارتكاب الجريمة الأولى على يد القوات السورية، أتى الانتحاريون الأربعة الذين قلبوا حياة القاعيين، من الجهة السورية منفّذين جريمتَهم قبل أن تشرقَ الشمس.
فالقاع تتّصل بالحدود السورية وتُحاذي منطقة جوسيه وتتحصَّن بالسلسلة الشرقية التي يرابض الجيشُ على تلالها، كلّ تلك العوامل الجغرافية جَعلت من البلدة المسيحية اللبنانية هدفاً استراتيجياً للجماعات الإرهابية التي تحتلّ قسماً من جرودها، خصوصاً بعدما أغلقَ الجيش ممرّات الإرهابيين في جرود عرسال ورأس بعلبك وضيَّقَ الخناق عليهم في جرود القاع.
القاع الجريحة لبسَت اللونَ الأسود حداداً على سقوط 5 شهداء من خيرة شبابها فجر أمس، حتى شجرُ «الزنزلخت» الأخضر الذي زُرع على جوانب طرقاتها لكسرِ حدّة المناخ الجاف صيفاً، إسوَدَّ لونُه وانحنى أمام هول الجريمة وسياراتِ الإسعاف التي كانت تنقل الشهداء والجرحى مسرعةً وعابرةً طريق القاع – الهرمل.
إستطاعَ الإرهاب تحقيقَ مرادِه في القاع لساعات معدودة، حيث خلت الشوارع من السكّان الذين هرعوا إلى المستشفيات لمرافقة المصابين، فيما التزَم بعضُهم منزله بعد التحذيرات من وجود انتحاريّ خامس، وقد سارع الجيش إلى تمشيط المنطقة وفرضَ طوقاً أمنياً.
صحيح أنّ دورة الحياة في القاع توقّفَت لساعات، لكنّ إرادة المقاومة والصمود ظهرَت جليّةً مِن خلال تأكيد أهلها أنّهم باقون في أرضهم. فالرَجل الثمانينيّ الذي يضعُ كوفيةً تراثية تحميه من أشعّة الشمس، بقيَ يُحرّك عصاه متّكئاً عليها، وهو يُخبر أنّه مرَّ على البلدة الكثير «وبقينا وصَمدنا في أرضنا وبقيَ صليبنا مغروساً ومرفوعاً».
شباب البلدة الذين غادروها ليلَ الأحد متوجّهين إلى بيروت عادوا فجراً وهبّوا تاركين أشغالَهم ليقفوا إلى جانب أهلِهم ويدافعوا عن منازلهم إذا اضطرّ الأمر. أمّا الأطفال، فلم تتعَب الشوارع من دعساتهم، وأصرّوا على مرافقة أهلهم وكأنّ قدَرهم عيش المعاناة منذ الصغَر.
وحدَهما سيارة الإسعاف والباص الذي ينقل الركّاب يوميّاً إلى بيروت توقّفا عن العمل، لأنّ سائقَيهما ترَكا المهنة اليوميّة وارتقَيا إلى مرتبة شهيد.
جرحٌ ينزفُ في القاع، هكذا كان المشهد، فجوزف ليّوس الذي اعتاد يومياً نقلَ القاعيين إلى بيروت، سقط نتيجة الانفجار الانتحاري، فسارَع سائق سيّارة الإسعاف بولس الأحمر لإنقاذ الجرحى ففجّر انتحاريّ آخر نفسَه، فسَقطا شهيدَين، وبعد التفجير الانتحاري الثالث ارتفعَ عدد الشهداء إلى خمسة، فإضافةً إلى الأحمر وليّوس، استشهد ماجد وهبي، وفيصل عاد، وجورج فارس.
والقصّة المؤثّرة في استشهاد فارس أنّ زوجتَه دنيا لحقَت به بعد سماعها دويّ الانفجار فأصيبَت ووقعَت أرضاً ونزفَت ولم يتمكّن أحد من معرفة مكانها إلّا بعد وقتٍ، لتُنقل إلى المستشفى في وضع خطير.
لا تنفكّ النسوة في القاع يخبرنَ عن اللحظات الأخيرة للشهداء، فابنة ليّوس نجَحت في شهادة «البريفيه» وكان والدُها يعدّ لها احتفالاً، لكنّه رحلَ قبل أن يحينَ الموعد، فيما كانت «أوّل قربانة» إبن بولس الأحمر يوم السبت المقبل، لكنّه رحلَ، وبدلاً من أن يقفَ إلى جانبه في الكنيسة، وقف ابنُه الصغير قربَ جثّة والده.
الجيش شدَّد إجراءاته في البلدة، بينما استنفر الشباب وراقبوا كلّ حركة أو دخولَ أيّ غريب، فلا لعبَ بعد اليوم. وفي حين منِع الاقتراب من مسرح الجريمة، كان الأهالي وعلى رأسِهم رئيس البلدية بشير مطر يَروي ما حصَل، لكنّه قال في المقابل لـ«الجمهورية»: «ما حصَل هو خرقٌ أمنيّ، وليس هجوماً مسلّحاً، فلماذا نَحمل سلاحاً أو نتسلّح، الجيش يقوم بواجباته، ولو هجَم 10 آلاف مقاتل سنكون قادرين معاً على صدّهم، فالسلاح الفردي موجود، والدليل أنّنا قتلنا الإرهابي الرابع بـ»الفرد»، لكنّ المطلوب تشديد العمل الاستخباراتي لكشفِ كلّ الخلايا الإرهابية النائمة».
تعدّدَت الروايات الأمنية عن أهداف الانتحاريين، بحيث ذكرَت الرواية الأولى أنّ هدفَهم تهجير أهل البلدة وتخويفُهم، والدليل أنّهم فجّروا أنفسَهم على 4 دفعات لإيقاع أكبر عدد من الشهداء، معتمدين استراتيجية تجميعِ الناس ومِن ثمّ التفجير.
أمّا الرواية الثانية، فأشارت إلى أنّ الانتحاريين كانوا ينوون تفجيرَ أنفسِهم في باص الجيش الذي يمرّ كلّ يوم في البلدة، فيما تحدّثت الرواية الثالثة عن عزمِهم التوجّه إلى مكان آخر وربّما استهداف تجمّعات للشيعة في رمضان إنْ كانَ في بعلبك أو الهرمل، أو حتى في الضاحية، لكنّ الحقيقة الراسخة والوحيدة أنّ القاع دفعَت الثمن مجدّداً.
الاحتمالات كلّها مفتوحة، والقاعيّون رقصوا حزناً، والمشهد تبلوَر أكثر في قاعة الكنيسة حيث حضَر أهالي الشهداء لتقبّلِ التعازي. رقصَت الأمّهات حاملاتٍ المناديل وقطعةً من ثياب أولادهنّ. جلست أمّ وهبي إلى جانب زوجة ليّوس ووالدة بولس الأحمر، يصرخنَ «مِش مصدّقين، أين أولادنا وأزواجنا، لماذا رحَلوا باكراً مَن خطفَهم؟».
حملت زوجة ليّوس قطعةً من ثياب زوجها، صارخةً: «مَن سيهتمّ باليتامى؟ لماذا فعلوا هكذا؟ كان يملأ البيت، عامود المنزل غادرَنا». وما هي إلّا دقائق حتى اندفعَت مسرعةً إلى خارج القاعة، مناديةً: «لقد عاد، الآن موعد عودتِه من بيروت ناقلاً أهالي القاع».
زوجة الأحمر قالت، مِن جهتها، لـ«الجمهورية»: «زوجي ذهبَ لإنقاذ جارِه جوزف، فرافقَه إلى دنيا الخلود، وظلّا رفيقين حتّى في الموت».
شكّلَت القاع قبلة المستنكرين والداعمين الذين وصَلوا منذ الصباح الباكر، من شخصيات ونواب وفعاليات، وقصدَها قائد الجيش العماد جان قهوجي الذي اجتمعَ في البلدية مع فاعليات البلدة، وأكّد، وفق المجتمعين، أنّه «لن يترك القاع وأيَّ منطقة لبنانية، فتدابيرُ الجيش مشدّدة والحرب مع الانتحاريين مستمرّة، لكنّ طريقة ضبطِهم صعبة، ولن نألوَ جهداً في ذلك».
راعي أبرشية بعلبك للروم الكاثوليك المطران الياس رحّال كان أكثرَ تشدّداً، إذ أكّد لـ«الجمهورية» «أنّنا باقون في أرضنا، ولن يستطيع أحد اقتلاع المسيحيين، فوجودنا حياتُنا، ولن يرعبَنا أحد»، مشيراً إلى أنّ «الجيش موجود لكنّ الدولة غائبة، ونطالب بعودتها»، داعياً إلى «أخذ الاحتياطات، وعودة النازحين الى سوريا، لأنّ هناك مناطق آمنة ولم نستطِع تحمّلَ الأعباء».
من القاع إلى الحدود السورية، تقع منطقة مشاريع القاع التي يَقطنها نحو 35 ألف سوري، ومن المرجّح أن يكون الانتحاريون خرجوا منها. وفي السياق يطالب الأهالي بالتخلّص مِن تلك المخيّمات، وهذا ما قاله النائب إيلي ماروني الذي زار البلدة برفقةِ نوّاب زحلة والنائب أنطوان زهرا، إذ قال لـ«الجمهورية»: «أنا ضدّ الوزير جبران باسيل، لكنّني أوافقه الرأي في عودة النازحين إلى بلادهم، لأنّ هناك مناطق آمنة، وهذه المشكلة تحتاج حلّاً».
حتى ساعات متأخّرة، توافَد المتضامنون إلى القاع، ومِن بينهم باسيل الذي أكّد أنّ «الإرهاب يضرب أينما كان»، وقال: «لم نأتِ لنقفَ مع أهل القاع، بل القاع هي التي تقف إلى جانب جميع اللبنانيين منذ زمن».
وشدّد على أنّ «لبنان على خطّ الدفاع الأوّل عن أوروبا، كما أنّ القاع هي خط الدفاع الأوّل عن لبنان»، مشيراً إلى أنّ «البلديات لديها شرطة محلّية وسلطة في نطاقها المحلّي، وتستطيع محاربة الإرهاب، ولا أحد يستطيع منعَ الشعب من الدفاع عن نفسه». وشدّد على أنّ «المطلوب من الحكومة أكثر بكثير ممّا تقوم به الآن».
إنتهى يوم القاع حزيناً مع تجدد العمليات الإنتحارية، في وقتٍ ينتظر الجميع التحقيقات، وعلى رغم تأكيد كاهن الرعية إليان نصرالله «أنّنا نواجه الإرهاب منذ 4 سنوات وسنستمرّ، وعلى الدولة تحرير كلّ الجرود وضرب الخلايا النائمة»، يبقى الخوف من تكرار هذه العمليات، وعندها يكون الوضع قد اتّجه نحو الأسوأ.